بعد انتخاب رئيس الجمهورية في 9 كانون الثاني 2025 الذي طال انتظاره وإتمام تشكيل حكومة الإصلاح والإنقاذ في 8 شباط 2025، يواجه لبنان لحظة حاسمة في انتعاشه الاقتصادي. لم تكن الحاجة إلى استعادة الانتظام في الشؤون المالية للبلاد، بدءاً من الدولة ومؤسساتها وصولاً إلى آخر مكون من مكونات القطاع الخاص، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وتعدّ الموازنة العامة للعام 2025 محورية في هذا الجهد، وهي مخطط مالي له تداعيات اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى. ستحدّد هذه الموازنة طبيعة المسار الاقتصادي للبلاد في الأشهر والسنوات المقبلة.
الموازنة المتوازنة هي أساس الإدارة الفعالة للمالية العامة. وهي بمثابة أداة استراتيجية لتوزيع وتخصيص الموارد، وضمان الانضباط المالي، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
تعتمد قدرة الحكومة على تقديم الخدمات العامة الأساسية، مثل البنية التحتية والأمن والقضاء والرعاية الصحية والتعليم، وعلى قدرتها على توليد الإيرادات وإدارتها بكفاءة.
تأتي إيرادات الحكومة من مصادر مختلفة، بما في ذلك الموارد الطبيعية والمساعدات الخارجية والرسوم والضرائب. من بين هذه القضايا، تلعب الضرائب دوراً محورياً في استدامة المالية العامة، لأنها توفر تدفقاً مستقراً للإيرادات ويمكن التنبؤ به. تؤثر فعالية النظام الضريبي للدولة بشكل مباشر على النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وشرعية الحكم.
ومع ذلك، يواجه النظام الضريبي في لبنان أوجه قصور عميقة الجذور، وعدم مساواة منهجية، وانعدام الثقة المتفشي. كما أدى سوء الإدارة المالية، وضعف الإنفاذ، وتحديات الحوكمة إلى التهرب الضريبي على نطاق واسع، وعدم الامتثال، وتآكل العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها. تتطلب معالجة هذه التحديات أجندة إصلاح شاملة تهدف إلى تعزيز العدالة والشفافية والكفاءة.
التحليل الوصفي للنظام الضريبي في لبنان
لطالما اتسم النظام الضريبي اللبناني بأوجه القصور الهيكلية، وتحديات الحوكمة، وانعدام ثقة المواطنين. يعد الإطار الضريبي العادل والفعال ركيزة أساسية لاقتصاد مستقر، مما يضمن تحصيل الإيرادات العامة بشكل عادل واستخدامها لتمويل الخدمات الأساسية. ومع ذلك، فإن النظام الضريبي الحالي في لبنان رجعي وعفّى عليه الزمن ومليء بأوجه القصور الإدارية. وتتطلب معالجة هذه القضايا دراسة متعمقة للعيوب السائدة وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية الأوسع نطاقاً.
1. التفاوتات الهيكلية والضرائب التنازلية. النظام الضريبي في لبنان رجعي في الغالب، ويثقل كاهل الفئات ذات الدخل المنخفض بشكل غير متناسب بينما يوفر ثغرات ومعاملة تفضيلية للأفراد والشركات الأكثر ثراء. يؤدي الاعتماد الشديد على الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة (VAT)، إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل ويضع ضغوطاً مالية لا داعي لها على أولئك الأقل قدرة على تحمّل تكاليفها.
2. تحديات الفساد والحوكمة. يعاني النظام الضريبي من الفساد والتدخل السياسي وتضارب المصالح. وقد عزّزت آليات الإنفاذ الضعيفة والتطبيق التقديري لقوانين الضرائب إفلات الأفراد ذوي الملاءة المالية العالية والشركات الكبرى من العقاب، مما زاد من تقويض ثقة المواطن.
3. أوجه القصور الإدارية. أدّت أدوات الإنفاذ التي عفّى عليها الزمن، والبنية التحتية التكنولوجية غير الكافية، والافتقار إلى الموظفين المهرة إلى إعاقة كفاءة تحصيل الضرائب ومراقبة الامتثال. تؤدي عمليات تسوية المنازعات الضريبية غير المتسقة إلى إضعاف الامتثال الطوعي وخلق حالة من عدم اليقين لدافعي الضرائب.
4. التشريعات الضريبية القديمة. فشلت قوانين الضرائب في لبنان في مواكبة التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية الحديثة، مثل المعاملات الرقمية والتجارة الإلكترونية. وتتيح هذه الثغرات القانونية التهرب الضريبي وخسائر الإيرادات، مما يستلزم إصلاحات تشريعية عاجلة لتتماشى مع المعايير الدولية.
5. انعدام ثقة المواطن والاقتصاد النقدي. أدّت الشكوك الواسعة النطاق في شأن توزيع وتخصيص الإيرادات الضريبية وسوء الإدارة إلى إضعاف الشعور بـ “المواطنة الضريبية”. ويزيد انتشار الاقتصاد غير المنظم القائم على الأوراق النقدية من تعقيد إنفاذ الضرائب، مما يتيح التهرب الضريبي والجرائم المالية.
التدابير التمهيدية للإصلاح
يتطلب إصلاح النظام الضريبي في لبنان نهجاً متعدد الأوجه يعالج أوجه القصور ويعزز آليات التنفيذ ويعزز ثقة المواطن. يجب أن يكون النظام الضريبي الذي يعمل بشكل جيد عادلاً وشفافاً وتتم إدارته بكفاءة لدعم التنمية الاقتصادية المستدامة. وتهدف التوصيات التالية إلى التصدي للتحديات القائمة مع إرساء الأساس لإطار مالي حديث ومنصف.
1. توسيع القاعدة الضريبية
● إضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد غير الرسمي. تنفيذ الحوافز وتبسيط عمليات التسجيل لتشجيع الامتثال الطوعي بين الشركات العاملة في القطاع غير الرسمي.
● تطبيق نظام التعريف الضريبي. تقديم رقم تعريف ضريبي (TIN) وفق المعايير العالمية لجميع المقيمين والرعايا الأجانب لتحسين المساءلة وتتبع الالتزامات الضريبية.
● تعزيز الإنفاذ والجباية. فرض عقوبات صارمة، مالية وغيرها، على عدم الامتثال واتخاذ تدابير لمحاسبة المؤسسات التي تلعب دوراً أساسياً في تمكين التهرب الضريبي، مثل المدققين والمستشارين القانونيين.
2. تحديث إدارة الضرائب
● الرقمنة والحوكمة الإلكترونية. تنفيذ أنظمة الإقرار (e-declaration) والدفع الإلكتروني (e-payment) لتبسيط التحصيل الضريبي وتحسين الشفافية.
● الاستفادة من التقنيات المتقدمة. استخدام الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) وتقنية سلسلة الكتل (Blockchain) للكشف عن الاحتيال واستغلال الثغرات في التصريح الضريبي وأتمتة مهام إدارة الضرائب (Automation of Tax Administration ) الروتينية.
● إنشاء سجل مركزي لأصحاب الحق الاقتصادي. إنشاء سجل لتتبع المالكين النهائيين للمؤسسات (المكلفين الحقيقيين) وتقليل فرص التهرب الضريبي.
3. تعزيز العدالة الضريبية
● احتساب الضريبة على الدخل الشخصي المجمع. دمج مصادر الدخل في إطار ضريبي موحّد مع شطور ضريبية تصاعدية.
● القضاء على السياسات التي تؤدي إلى نتائج عكسية. إلغاء الامتيازات والعفو الضريبي والخصومات التي تكافئ عدم الامتثال، واستبدالها بحوافز طويلة الأجل لتفعيل الامتثال الطوعي.
● الضرائب المخصصة (Earmarked Taxes). إدخال ضرائب مستهدفة، مثل ضرائب الخطيئة (Sin Taxes) أو ضرائب الشواغر (Vacancy Taxes)، لتمويل الخدمات العامة وتحسين الشفافية في تخصيص الإيرادات الضريبية.
4. معالجة الفساد وتحسين المساءلة
● هيئات الرقابة المستقلة. تفعيل دور المؤسسات الرقابية وتعزيز استقلاليتها لتمكينها من أداء دورها الرقابي في إدارة الضرائب وتخصيص الإيرادات الضريبية (Revenue Allocation).
● الإفصاح عن تحصيل الضرائب والإنفاق. النشر المنتظم لتقارير الإيرادات والنفقات الحكومية لتعزيز الشفافية.
● الحد من تضارب المصالح. تنفيذ قواعد صارمة لمنع التدخل السياسي في صنع السياسات الضريبية وإدارتها.
● الامتثال الدولي وتدابير الشفافية. التوافق مع إطار عمل تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح (Base Erosion & Profit Shifting framework) لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD) وتعزيز المشاركة في معيار الإبلاغ المشترك (Common Reporting Standards) للتبادل التلقائي للمعلومات الضريبية.
5. تعزيز المشاركة العامة والوعي
● حملات التثقيف العام. إطلاق مبادرات لتحسين محو الأمية الضريبية والمالية وتعزيز الشعور بالمسؤولية الضريبية بين المواطنين.
● المشاركة الضريبية على مستوى المجتمع المحلي. تمكين حكومات البلديات من إشراك المجتمعات في الوعي بالامتثال الضريبي والشفافية لجهة تخصيص واستخدام الإيرادات.
خارطة طريق للحكومة الجديدة
سوف تواجه الحكومة الجديدة المشكلة الملحة المتمثلة في معالجة التحديات المالية والاقتصادية في لبنان في إطار موازنة 2025. فشلت المسودة الأولى في تفسير حدثين تحويليين: الضرر الجسيم الناجم عن الإعتداء الإسرائيلي على لبنان في أواخر عام 2024 والتداعيات الاقتصادية لعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم بعد سقوط نظام الأسد. ويتطلب المضي قدماً إعادة تقويم أولويات المالية العامة لإعادة بناء البنية التحتية، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، والتكيف مع المتغيرات الديموغرافية.
يجب أن تكون موازنة العام 2025 بمثابة مخطط للتعافي والنمو المستدام. يجب على الحكومة إعطاء الأولوية لجهود إعادة الإعمار الفورية مع الحفاظ على الانضباط المالي لاستعادة ثقة المستثمرين والمواطنين. ومن الأهمية بمكان ضمان دعم التدابير الضريبية الجديدة للتنشيط الاقتصادي بدلاً من فرض المزيد من الأعباء على الأسر والشركات المتعثرة. ويجب أن يشمل المسار إلى استدامة المالية العامة ما يلي:
● إعادة تخصيص الموارد لإعادة الإعمار. على الرغم من الوعود التي قدمها أصدقاء لبنان والدول المانحة بالمساعدة في جهود إعادة الإعمار، يجب تخصيص جزء من إيرادات الدولة لإعادة بناء البنية التحتية، لا سيما في المناطق التي تضررت بشدة من الهجمات الإسرائيلية. وهذا يشمل الطاقة والنقل ومرافق الخدمات العامة.
● التأقلم الاقتصادي مع عودة اللاجئين السوريين. سيؤدي رحيل جزء كبير من العمال، الذين كانوا حجر الزاوية في قطاعي الزراعة والبناء في لبنان، إلى تحولات في ديناميكيات سوق العمل.
في حين أن هذه العودة الجماعية قد تخلق نقصاً في العمالة في بعض القطاعات، إلا أنها تخفف أيضاً الضغط على البنية التحتية العامة والخدمات الاجتماعية المتوترة أصلاً في لبنان. بالإضافة إلى ذلك، فإن انخفاض الطلب على السلع والخدمات الأساسية، الناجم عن مغادرة أكثر من مليون لاجئ، ستكون له عواقب اقتصادية إيجابية وسلبية على حد سواء. يجب على الحكومة تقييم هذه الآثار بعناية وتنفيذ سياسات تضمن الانتقال السلس للقطاعات المتضررة مع الاستفادة من أي تخفيف في الإنفاق العام قد ينتج عن هذه العودة. يجب أن تتكيف الخدمات العامة مع التحولات الديموغرافية، وهذه العودة سوف تعزّز سوق العمل في لبنان إذا تمت إدارتها بفعالية.
● تعزيز آليات تحصيل الإيرادات. مع استمرار التغيرات الاقتصادية، سيكون فرض الامتثال الضريبي مع توسيع القاعدة الضريبية أمراً ضرورياً لتمويل الإصلاحات دون الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية.
● تعزيز الشفافية والحوكمة. يجب على الحكومة طمأنة أصحاب المصلحة المحليين والدوليين من خلال تحسين إدارة المالية العامة وضمان تخصيص الإيرادات الضريبية بكفاءة.
من خلال تبني نهج استشرافي وبراغماتي، يمكن للبنان تحويل نظامه الضريبي إلى أداة لإعادة البناء الوطني والمرونة الاقتصادية. وسيتوقف نجاح الحكومة الجديدة على قدرتها على دمج الإصلاحات البنيوية في سياسات المالية العامة، مما يضمن أن تكون الضرائب عاملاً تمكينياً للاستقرار بدلاً من أن تكون مصدراً لمزيد من الضائقة الاقتصادية.
يجب أن تحدد موازنة العام 2025 المسار لفصل جديد من الانتعاش المالي واستعادة الثقة. من خلال تعزيز الشفافية وضمان فرض ضرائب عادلة وإعادة بناء الثقة من خلال المشاركة العامة، يمكن للبنان تحويل نظامه الضريبي إلى ركيزة للعدالة الاجتماعية والمرونة الاقتصادية. وتعد المسؤولية الجماعية لصناع السياسات والمجتمع المدني والشركاء الدوليين ضرورية لدفع الإصلاحات المالية المستدامة واستعادة الثقة في الحوكمة المالية للدولة.