النظام الضريبي مشرذم!

شخّص كل من جمعية Financially Wise ومعهد باسل فليحان المالي والاقتصادي من خلال الدراسة «كيف يمكن لنظام ضريبي جديد استعادة النمو وتحقيق العدالة»، المعضلة التي يعاني منها النظام الضريبي في لبنان قبل الازمة، وأولاها فوضى وتخمة تشريعات وضعها «لوبي نيابي» للحفاظ على مصالح «الممسكين بزمام السلطة وأزلامهم»، وتأمين ما يلزم من أموال لتسيير المرافق العامة عبر زيادة الضرائب بشكل غير مدروس، فكان اللجوء (لا سيما في السنوات التي سبقت الازمة) الى رفع معدلات الضريبة، في ظل انكماش اقتصادي ما أدى الى تراجع في مستوى الجباية. وبعد الازمة ازداد هذا التراجع استفحالاً وتزامن مع تقلص اداء موظفي القطاع العام لا سيما العاملين في النظام الضريبي، وهجرتهم الى القطاع الخاص نتيجة لتدهور ظروف العمل وزيادة الكلفة المعيشة.

على حد تعبير رئيسة معهد باسل فليحان لمياء مبيض بساط، «المشهد المالي والنظام الضريبي معقد، والمسار السياسي صعب، لكن لا بد من البدء من لحظة معينة، ولذلك فالمعهد حاضر لتقديم المشورة التقنية لاصلاح النظام الضريبي على جري عادته، لأنه لم يعد بالامكان الهروب الى الامام والدولة لا بد لها من تأمين الواردات لتأمين سير المرافق العامة».

أضافت: «هدفنا من هذه الدراسة تقديم نظرة متوازنة حول ما يجري في المالية العامة، والقول أن المشكلة تكمن في الايرادات الضريبية، ولذلك كي ننتقل من نظام ضريبي مشرذم الى نظام جديد لا بد من تحديد مواطن الخلل».

الدراسة ومنهجية العمل

استندت الدراسة إلى مقاربة موضوعية مبنية على خمس ركائز رئيسية هي، سياق الاقتصاد الكلي أو الإطار الماكرو اقتصادي، والإطار القانوني، والقدرات البشرية، وأداء النظام الضريبي، وتصميم السياسة الضريبية. بعد كلمة ترحيبية لمديرة قسم التعاون والشركات في المعهد سابين حاتم، عرض الخبير في المالية العامة وممثل جمعية Financially Wise اسكندر البستاني، في مداخلته مضمون الدراسة والمنهجية التي اعتمدتها والنتائج والتوصيات، وأبرز هذه التوصيات تنفيذ مجموعة إصلاحات ضريبية، تهدف على المديين القصير والمتوسط إلى «تنفيذ تدابير تصحيحية من بينها تحسين تحصيل الإيرادات، وإنهاء استنزاف القدرات وتوحيد الإجراءات، وعلى المدى الطويل إلى تجديد النظام الضريبي وإعادة هيكلته، بحيث يكون أكثر اعتماداً على الضرائب التصاعدية المباشرة وأقل اعتماداً على غير المباشرة منها، ويشمل إقرار ضريبة موحدة على الدخل واستحداث أخرى على الثروة».

خلال عرض الدراسة لفت البستاني الى أن»لبنان يمرّ بسلسلة من الأزمات المركّبة وغير المسبوقة التي استنزفت موارده الحيوية، وأدّت إلى انكماش اقتصادي يُعتبر الأكبر في تاريخه الحديث، أغرق نسبة كبيرة من سكانه في فقر مدقع وعمّق الفوارق في المستويات الاجتماعية، التي طالما اتسمت بتفاوت حاد يعود حتّى إلى ما قبل الأزمة»، لافتا الى أن «هذه الفجوة تفاقمت باتباع نظام ضريبي تساهلَ مع القطاع المصرفيّ، وشجع على التهرّب الضريبي، وركّز الثروة في أيدي القلة، بينما أخضع المكلّف العادي لنظام ضريبي تنازلي أرهق الأكثر فقراً». وشدّد على أن «أمام لبنان اليوم فرصة ذهبية لإعادة التفكير في النموذج الاقتصادي الحالي، وإجراء إصلاح اقتصادي، ومعالجة الفوارق الاجتماعية، وضمان العدالة الضريبية، وإصلاح إدارة المال العام»، مؤكدا أن «ثمة حاجة فعلية إلى تسريع عجلة التحرّك نحو تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها، من بينها النظام الضريبي الذي يشكّل أحد أركانها الرئيسية»، وتوقع أن» يؤدي إصلاح كهذا إلى ضمان الإستدامة المالية، وتمويل الإنفاق الاجتماعي، وإصلاح الاقتصاد على اعتبارات العدالة والمساواة، واستعادة الحد الأدنى من الثقة بين المواطنين ودولتهم».

السياق الإقتصادي الكلي

ولفت البستاني الى أن «نتائج الدراسة سلّطت الضوء على أوجه القصور بين السياق الاقتصادي الكليّ واستجابة السياسة الضريبيّة، التي غالباً ما تُوضع وتُطبّق بصورة مرتجلة من دون الإستناد إلى إطار مالي متوسط الأجل». ولاحظ أن «اعتماد تدابير ضريبية منعزل بعضها عن بعض أدّى إلى خلل في النظام الضريبي وأثر سلباً على الاستدامة المالية والنشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية».

واشار الى أن «الدراسة اظهرت أن النظام الضريبي في لبنان لم يحقق عبر السنوات ايرادات كافية، اذ انخفضت نسبة الضرائب من الناتج المحلي الإجمالي من 15.1 بالمئة في العام 2019، إلى نحو 6.6 بالمئة في أواخر عام 2021. وإضافة إلى ذلك، فان الإيرادات الضريبية التي غالباً ما شكّلت الحصة الأكبر من إيرادات الدولة اللبنانية – اذ تراوحت خلال العقد الماضي بين 69 بالمئة و83 بالمئة – ضاعفت من تعرّض الإستدامة المالية لمزيد من التهديدات».

وذكّر بأن»كلفة عدم كفاية التحصيل الضريبي كانت مرتفعة جداً منذ ما قبل الأزمة، إذ بلغت الكلفة، لناحية فوائد الدين مقترنة بقيمة ضريبية غير محصلة بنسبة1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بين 34 و36 مليون دولار خلال الأعوام الممتدة من 2016 إلى 2019، وزادت كلفة عدم كفاية التحصيل الضريبي بعد الأزمة وتفاقمت بسبب اعتماد تدابير ضريبية مصمّمة لأغراض محدّدة، وقُدّرت قيمة خسائر الايرادات الناجمة عن سوء تقويم ضرائب الاستيراد وحدها بنحو 4.8 بالمئة من الناتج الاجمالي، بحسب الدراسة». وشرح البستاني أنّ «المحاولة الوحيدة لرفع الضرائب إرتدّت سلباً. فبين أواخر 2017 وبداية 2018 اتُخذت تدابير عدة لرفع معدّلات الضريبة، ولكن في سياق الانكماش الاقتصادي، أنتجت هذه التدابير تأثيراً معاكساً يساير الدورة الاقتصادية أدّى إلى تراجع في مستوى الجباية بنسبة 1.8 بالمئة. كذلك أدى إلى انخفاض معدلات جباية الضريبة على القيمة المضافة، التي تُعَدّ المصدر الرئيسي للإيرادات الضريبية للدولة، بنسبة 15.2 بالمئة، وفي الآونة الأخيرة، وتحديداَ في عام 2021، فأصبح النظام الضريبي أكثر تمييزاً وإجحافاً رغم الزيادة الاستثنائية في تحصيل الضريبة على القيمة المضافة»، وفق الدراسة. ولفت إلى أن «زيادة الإيرادات الضريبية في العام 2021 ساهمت بشكل مباشر في تقليص الفارق القائم لنسبة الضرائب إلى الإنفاق. ومع ذلك، فإنّ هذا التحسّن المالي بعد الأزمة، والمدفوع بارتفاع حاد في تحصيل الايرادات، يبقى غير مستدام ولا يُتوقع له الإستمرار».

القدرات البشرية والإدارة الضريبية

اوضح البستاني أن نتائج الدراسة أظهرت بأن «الأداء العام للموظفين الحاليين تراجع بشكل كبير نتيجة لتدهور ظروف العمل وزيادة الكلفة المعيشة التي تفاقمت بشكل كبير بفعل خسارة القيمة الحقيقية للدخل والإستنزاف الممنهج للقوى العاملة والماهرة منذ بدايات الأزمة». وتوقّع «أن تواجه الإدارة الضريبية نقصاً في قدراتها البشرية على المدى المتوسط، اذ يتم توظيف موظفيها الماهرين في أماكن أخرى. قد يؤدي استنزاف المواهب ومغادرة الموظفين الذين تمّ إعدادهم وتدريبهم على مرّ السنين إلى إضعاف قدرة الإدارة على استئناف نشاطها بانتظام أو إجراء أية إصلاحات»، معتبراً أن «عجز الإدارة عن قيامها بمهامها من شأنه أن يزيد من تقويض علاقتها مع دافعي الضرائب كما يزيد من مخاطر الاحتيال والتهرّب الضريبي».

الأنظمة والعمليات المعمول بها في الإدارة الضريبية

شرح البستاني أن «الدراسة اظهرت أن التأخير المتكرر وتمديد فترة السماح للتصريح ودفع الضرائب لا سيّما في أوقات التدهور السريع لقيمة العملة، أدّيا إلى ازدياد التمييز بين المكلفين وعدم المساواة في ما بينهم، كما أن بيانات الدراسة سلطت الضوء على ثغر كبيرة في التصميم التصاعدي للضرائب بما في ذلك ضريبة الدخل ورسم الانتقال وضريبة الأملاك الناتجة إلى حد كبير عن نقص في اعتماد احتساب ضريبي قائم على أساس تراكمي، كما أثمرت تصاعدية الضريبة تراجعاً بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية وتعدّد أسعار الصرف قبل التعديلات التي أدخلت على قانون موازنة العام 2022. وبعد التعديلات التي لحظها قانون موازنة عام 2022، تراجع أثر تصاعدية ضريبة الدخل مجدداً، واتسعت الفجوة بسبب انخفاض قيمة العملة لفئة محددة من الافراد، كما ان التعديلات عينها المعتمدة في قانون موازنة عام 2022 أدّت إلى زيادة التفاوت الضريبيّ بين فئات ضريبة الدخل».

التوصيات

خلصت الدراسة الى أنه «نظراً للظروف وللتحديات التي قد تعترض مسار الإصلاح وجهوده، يمكن للبنان أن يعتمد على مسارين محتملين للمضي قدماً:

– سيناريو طويل الأجل من شأنه أن يرسّخ الإصلاح في صلب الحوار المجتمعي والنقاش السياسي، ويهدف إلى تجديد النظام الضريبي وإعادة هيكلته، بحيث يكون موجّهاً نحو المزيد من التصاعدية، ومما يشمله إطلاق حوار وطني لصوغ عقد اجتماعي جديد، ووضع خطة متوسطة الأجل لإعادة بناء قدرة الإدارة الضريبية من خلال إجراءات ملموسة، وتنفيذ خطة إعادة بناء قدرات الإدارة الضريبية، وتحديد ركائز وسمات نظام ضريبي جديد للبنان، ووضع خطة زمنية للإصلاح والإلتزام بتنفيذها.

– يتمثل الخيار الثاني بحسب الدراسة في تنفيذ تدابير تصحيحية لتثبيت النظام القائم في الأجلين القصير والمتوسط. ومن بين هذه التدابير تحسين تحصيل الإيرادات، وإنهاء استنزاف القدرات وتحديث تصميم السياسات وتوحيد الإجراءات وتعزيز مشاركة المواطنين. ودعت في هذا الإطار إلى تطبيق إجراءات تصحيحية فورية لتجنّب وقوع خسائر كبيرة في تحصيل الإيرادات والحد من التباينات الكبيرة الناتجة عن التدابير غير المنتظمة التي اعتُمدت بسبب الأزمة النقدية.

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةموازنة 2024 تشرّع الرشوة
المقالة القادمة“الشراء العام” تُفنّد “سقطات” الـA2P: إهمال 10 ملايين يورو!