النظام المالي في 2023: مخاطر تبييض الأموال ترتفع

أعاد تقييم مجموعة العمل المالي، الذي صدر يوم الخميس الماضي، تسليط الضوء على مخاطر تبييض الأموال التي تحيط بالنظام المالي اللبناني، وما يمكن أن ينتج عن هذه المخاطر على مستوى تصنيف لبنان لدى المجموعة. فحتّى هذه اللحظة، ما زال تصنيف لبنان قيد المراجعة، ما يفتح المجال أمام إمكانيّة إدراجه على اللائحة الرماديّة للمجموعة خلال الأشهر المقبلة، وما هو ما سيزيد من العزلة الماليّة التي يعاني منها النظام المالي اللبناني أصلًا. ومن المعلوم أنّ ارتفاع حدّة مخاطر تبييض الأموال خلال السنوات الماضية ارتبط بشكل أساسي بالأزمة المصرفيّة، وما نتج عنها من اتساع في رقعة اقتصاد النقد الورقي، البعيد عن رقابة النظام المالي الشرعي.

بيان مصرف لبنان يوم الجمعة، ركّز على الجانب الإيجابي من التقرير، عبر الإضاءة على عدد التوصيات التي أحرز فيها لبنان “نتائج مقبولة” من جانب المجموعة. ومع ذلك، من المهم التصويب على الجانب الآخر من التقرير، الذي ركّز أيضًا على التعديلات المطلوبة في الإجراءات التنظيميّة والتشريعات، لتحسين منظومة مكافحة تبييض الأموال في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ أهميّة تحسين هذه المنظومة لا تقتصر على وجوب الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي، وتفادي العزلة الماليّة. بل إن تطوير هذه المنظومة يمثّل خطوة ضروريّة لتقليص نطاق عمليّات الإثراء غير المشروع والاحتيال والتهرّب الضريبي وغيرها من الجرائم الماليّة.

توسّع اقتصاد النقد الورقي
ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على درجة توسّع اقتصاد النقد الورقي خلال العام الراهن، تمامًا كما حصل خلال الأعوام الثلاثة السابقة، بفعل خروج الحركة الماليّة والتجاريّة من النظام المصرفي التقليدي.

فحتّى نهاية الشهر الماضي تشرين الثاني، كان عدد الشيكات المتداولة من خلال النظام المصرفي قد تضاءل إلى حدود 411 ألف شيك فقط، مقارنة بـ 1.48 مليون شيك خلال الفترة المماثلة من العام الماضي. وبهذا الشكل، تكون حركة الشيكات المصرفيّة قد خسرت هذه السنة 72% من قيمتها، بفعل ابتعاد المقيمين عن تداول الدولارات المحليّة (أو اللولار كما بات متعارفًا عليه في لبنان).

ما جرى خلال العام الراهن لم يكن استثناءً، فخلال الأعوام الثلاثة كان عدد الشيكات المتداولة ينخفض بشكل متدرّج بالشكل نفسه. وللمقارنة مثلًا، كان عدد الشيكات المتداولة خلال الفترة المماثلة من العام 2019 قد تجاوز حدود الـ 9.13 مليون شيك، أي ما يقارب 22 ضعف الحركة المسجّلة حتّى تشرين الثاني من هذا العام. ومن الأكيد أن الحركة الماليّة التي ابتعدت عن الحسابات المصرفيّة، انتقلت تلقائيًا إلى تداولات النقدي الورقي، التي لا تمتثل بالتأكيد لمعايير مكافحة تبييض الأموال، المعمول بها في النظام المصرفي التقليدي.

معالجات غير كافية
خلال العام الراهن، عمل مصرف لبنان على بعض المعالجات لإعادة استيعاب جزء من الحركة الماليّة في السوق، ضمن النظام المصرفي التقليدي، وهو ما من شأنه أن يحد من توسّع نطاق تداولات النقد الورقي. من هذه المعالجات مثلًا، كان التعميم 165، الذي سمح ابتداءً من حزيران الماضي بتداول شيكات “الدولار الفريش” أو “الليرة الفريش”، أي السيولة المصرفيّة التي تكوّنت بعد تشرين الأوّل 2019، والتي لا تخضع للقيود المفروضة على الودائع المصرفيّة.

وبهذا الشكل، كان مصرف لبنان يحاول التعامل مع تهرّب التجّار من تداول السيولة المصرفيّة، التي لا يمكن سحبها نقدًا أو تحويلها إلى الخارج، من خلال خلق نظام تداولات رديف وموازٍ لنظام “اللولار” الموجود أساسًا. ورغم أن الخطوة أثارت حفيظة المودعين، لكونها تتجاوز أزمتهم وتكرّس الفارق بين الودائع القديمة والجديدة، برّر مصرف لبنان الخطوة بأهميّة مكافحة اقتصاد النقد الورقي، لمكافحة تبييض الأموال والحؤول دون الوصول إلى مرحلة العزلة الماليّة.

الأرقام المتاحة تشير إلى عدد “الشيكات الفريش” التي جرى تداولها خلال تشرين الثاني وحده بلغ 344 شيكًا بالعملات الأجنبيّة، وبقيمة ناهزت الـ 4.15 مليون دولار، في مقابل 275 شيكًا بالليرة اللبنانيّة، بقيمة تقارب الـ 750 مليار ليرة لبنانيّة. وهكذا، يتضّح أن المصرف المركزي تمكّن بالفعل من وضع مخططه قيد التنفيذ، رغم تلكّؤ بعض المصارف في تسهيل إطلاق مقاصّة “الشيكات الفريش” في البداية. إلا أنّ حجم التداولات خلال تشرين الثاني، أي بعد ستّة أشهر من دخول التعميم حيّز التنفيذ، ما زال ضئيلًا مقارنة بحجم تداولات السوق، وبحجم حركة الشيكات قبل حصول الأزمة المصرفيّة، ما يشير إلى أنّ هذه الخطوة ما زالت غير كافية.

على أي حال، من المهم الإشارة أيضًا إلى أنّ تحقيق حد أدنى من الاستقرار النقدي خلال العام 2023، سمح بإحياء حركة الشيكات المتدولة بالليرة اللبنانيّة، والتي ارتفعت قيمتها هذه السنة –لغاية شهر تشرين الثاني- إلى 59.88 ألف مليار ليرة لبنانيّة، مقارنة بـ 23.46 ألف مليار ليرة فقط خلال العام الماضي. إلا أنّ هذا التحسّن الملحوظ لم يعوّض أبدًا الانخفاض الهائل في حركة الشيكات بالعملات الأجنبيّة، ما انعكس في الهبوط الحاد بعدد الشيكات الإجمالي المُتداول.

توصيات مجموعة العمل المالي
توصيات مجموعة العمل المالي، التي صوّبت على الثغرات التي يُفترض تداركها، ركّزت على ضرورة إصدار الآليّات التي تسمح بالوصول إلى المعلومات المشمولة بالسريّة المصرفيّة. مع الإشارة إلى أنّ التعديلات التي أقرّها البرلمان على قانون سريّة المصارف، في تشرين الأوّل من العام الماضي، أتاحت بالفعل تجاوز السريّة المصرفيّة، من قبل القضاء المختص والإدارة الضريبيّة ولجنة الرقابة على المصارف. إلا أنّ الحكومة لم تضع بعد الآليّات التطبيقيّة التي تسمح بتنفيذ القانون، في حين أن المصارف نفسها تلكّأت في منح القضاء معلومات مصرفيّة حتّى بعد إقرار هذا القانون.

كما صوّبت المجموعة على أداء الإدارة الجمركيّة، التي يفترض أن تعزّز قدراتها الفنيّة والتكنولوجيّة لتحديد الأفراد والجهات المتهرّبة من العقوبات. وهكذا، يبدو أن مجموعة العمل المالي تنظر بعين الريبة إلى ضعف الرقابة على المنافذ الحدوديّة البريّة والبحريّة والجويّة، والتي يمكن استخدامها في عمليّات تجاريّة تتجاوز العقوبات الدوليّة أو تتهرّب منها. ومن المعلوم أن تطبيق هذه التوصية مطلوب أيضًا لزيادة إيرادات الدولة، التي يحدّها بالتأكيد التهرّب الضريبي والتهريب.

أمّا الأهم، فهو أنّ المجموعة طلبت تعزيز قدرات التحقيق المالي، وقدرات الخبراء المختصّين بتحقيقات مكافحة تبييض الأموال، وهو ما يبرز كتحدّ كبير اليوم في ظل تحلّل الإدارات الرسميّة وضعف قدراتها. وعلى أي حال، يمثّل اتجاه مصرف لبنان اليوم لتصفية هيئة الأسواق الماليّة، بسبب عدم توفّر التمويل، إحدى علامات هذا التحلّل والضعف، الذي أصاب أيضًا جهات رقابيّة أخرى داخل مصرف لبنان، من دون أن يؤدّي إلى تصفيتها كما جرى مع هيئة الأسواق الماليّة.

في جميع الحالات، يبقى التحدّي الأساسي أمام مصرف لبنان، والذي يفترض أن يكون هاجسه الأساسي خلال العام المقبل، مسألة اقتصاد النقد الورقي. إذ أنّ بقاء التداولات الماليّة خارج إطار رقابة المصرف المركزي ستبقي السوق اللبنانيّة مشرّعة لمختلف الأنشطة الماليّة غير المشروعة، ومن بينها تلك التي تتصل بالتهرّب الضريبي. لهذا السبب بالذات، من مصلحة الدولة اللبنانيّة التركيز على المسائل المتعلّقة بالامتثال والرقابة على الأنشطة الماليّة، بمعزل عن توصيات مجموعة العمل المالي ومصالحها. مع العلم أن مخاطر العزلة الماليّة، التي يمكن أن تنتج عن عدم الامتثال لهذه التوصيات، لا تقل ضرّرًا على الاقتصاد اللبناني عن مخاطر الجرائم الماليّة والأنشطة غير المشروعة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقة2023 عام انهيارها وتقليص دورها: ما ينتظر الليرة بـ2024
المقالة القادمةالأمن والملاحة في المطار في خطر كل لحظة… هل من يبادر؟