يشهد النظام المالي الذي يدعم التجارة العالمية مرحلة شديدة الحساسية تُنذر بتغييرات عميقة قد تعيد تشكيل حركة السلع والخدمات عبر العالم، وهو ما اعتبره الخبراء والمحللون أكبر اختبار يواجهه العالم منذ عقود، ويدفع الحكومات إلى التفكير في آليات جديدة تسهم في الخروج من هذه الورطة.
حذرت وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة الثلاثاء من أن النظام المالي يُخاطر بتقويض التجارة العالمية إذا لم يتكيف مع احتياجات الاقتصاد، ومن المرجح أن تكون الدول النامية الأكثر معاناة.
ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتزايد القيود على تحويلات الدولار، واشتداد المنافسة بين القوى الاقتصادية الكبرى، باتت آليات تمويل التجارة تواجه ضغوطًا متراكمة تهدد استقرارها وفاعليتها.
وفي ظل عالم يعتمد اعتمادًا هائلًا على شبكات معقدة من البنوك والمؤسسات المالية وشركات الشحن، فإن أي اضطراب في هذه المنظومة قد ينعكس على الأسعار وسلاسل الإمداد ووتيرة النمو العالمي.
واستعرض خبراء الأمم المتحدة في أحدث تقييم للوضع ملامح هذا التحدي غير المسبوق، والعوامل التي قادت إليه، وتأثيراته المحتملة على مستقبل التجارة الدولية.
وأشار تقرير الوكالة، التي كانت تعرف باسم “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” (أونكتاد)، الذي عُرض في لندن، إلى أن التحولات في الأسواق المالية تُحرك التجارة العالمية الآن بقدر ما يُحرك النشاط الاقتصادي الحقيقي.
وبحسب مسؤولي الوكالة المختصة في قضايا التجارة والتنمية في البلدان النامية، فإن الظروف المالية تحدد بشكل متزايد تدفقات التجارة العالمية وتُشكل آفاق التنمية في جميع أنحاء العالم.
وقالت ريبيكا غرينسبان، الأمينة العامة للوكالة، في بيان “التجارة ليست مجرد سلسلة من الموردين. إنها أيضًا سلسلة من خطوط الائتمان وأنظمة الدفع وأسواق العملات وتدفقات رأس المال.”
وصرحت في مقابلة مع رويترز بأن النظامين المالي والتجاري متزامنان بشكل وثيق إلى درجة أن أي ارتفاع في تقلبات السوق أو عدم اليقين سيكون له تأثير كبير على التجارة العالمية.
وأشارت الوكالة إلى أنه من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي من 2.9 في المئة خلال عام 2024 إلى 2.6 في المئة في عام 2025 بسبب تزايد التقلبات المالية والتوترات الجيوسياسية.
ويعتمد أكثر من 90 في المئة من التجارة العالمية على التمويل المصرفي، مع بقاء السيولة الدولارية وأنظمة الدفع عبر الحدود أساسية للتجارة الدولية.
وأحدثت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية منذ توليه منصبه في يناير الماضي، صدمةً في الأسواق المالية، وأثارت موجةً من عدم اليقين في الاقتصاد العالمي.
وفي أغسطس الماضي فرضت الولايات المتحدة رسوما أعلى على الواردات، وهو ما دفع شركاء تجاريين رئيسيين، مثل سويسرا والبرازيل والهند، إلى البحث عن صفقة أفضل، بينما أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقًا حدد الرسوم بنسبة 15 في المئة على معظم الواردات.
وأثارت السياسات التجارية التي يتبناها ترامب موجة من القلق في الأوساط الاقتصادية العالمية، لكنها أطلقت سباقا عالميا بعيدا عن العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة.
وأعادت الرسوم إلى الأذهان أجواء الحرب التجارية التي اندلعت خلال فترة ولايته الأولى، لكنها هذه المرة تُسهم في دفع دول العالم إلى التحرك السريع لتأمين مصالحها التجارية من خلال توسيع وتوقيع اتفاقيات تجارة حرة جديدة.
وأشار تقرير الوكالة الأممية إلى أن “هذا الاعتماد الكبير على القنوات المالية يجعل التجارة في كل الدول مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأوضاع المالية والنقدية العالمية.”
وأضاف “يمكن أن يؤثر أي تحول في أسعار الفائدة أو معنويات المستثمرين في مركز مالي رئيسي على أحجام التجارة في جميع أنحاء العالم.”
وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن تنمو الاقتصادات النامية بوتيرة أسرع من الاقتصادات المتقدمة، إلا أنها تواجه تكاليف تمويل أعلى، وتدفقات رأسمالية متقلبة، ومخاطر متزايدة مرتبطة بالمناخ، وهي عوامل تُقيد الحيز المالي والاستثماري اللازم لاستدامة النمو.
ويظل الدولار محوريًا في النظام المالي العالمي. وذكرت الوكالة أن هذا يوفر الاستقرار في أوقات عدم اليقين، ولكنه يربط أيضًا الاقتصادات النامية بدورات مالية لا تملك سوى تأثير محدود عليها.
وقال غرينسبان “نحن بحاجة إلى إيجاد سبل تجعل من أدوات نظام الدفع، والتأمين، وقدرة هذه الدول على الإقراض أو التصرف بعملاتها المحلية جزءًا من مرونة النظام في المستقبل.”
وكررت الوكالة الأممية مطالبتها بإجراء إصلاحات لمواءمة التجارة والتمويل وضمان الاستقرار على المدى الطويل، بما في ذلك تحديث قواعد التجارة، وإصلاح النظام النقدي الدولي.
ويعتقد مسؤولو الوكالة أن ذلك سيسهم في الحد من التقلبات الضارة في أسعار العملات وتدفقات رأس المال، وتعزيز أسواق رأس المال لتوسيع نطاق التمويل طويل الأجل بأسعار معقولة.
وقال غرينسبان “ما الذي تتطلبه المرونة الحقيقية؟ أطر سياسات متكاملة تُدرك الروابط بين التجارة والتمويل والاستدامة.” وأضاف “في الأساس، لا يمكننا فهم التجارة بمعزل عن التمويل.”
وفي أكتوبر الماضي خفضت منظمة التجارة العالمية توقعاتها لنمو حجم التجارة العالمية للبضائع لعام 2026 بشكل حاد إلى 0.5 في المئة، مشيرةً إلى الآثار المتأخرة والمتوقعة للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب.
ويمثل هذا خفضا كبيرا لتقديرها السابق الصادر في أغسطس والبالغ 1.8 في المئة، ما يشير إلى أن الآفاق أكثر تشاؤما جراء الحرب التجارية العالمية التي ذكاها ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير الماضي.
وقالت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونغو إيويالا للصحافيين في جنيف آنذاك إن “التوقعات للعام المقبل أكثر قتامة… أشعر بقلق بالغ.”
ومع ذلك، أشارت إلى أن نظام التجارة العالمي يُظهر مرونة، حيث يوفر النظام متعدد الأطراف القائم على القواعد بعض الاستقرار في ظل الاضطرابات التجارية.
وبالنسبة إلى عام 2025، رفعت المنظمة توقعاتها لحجم التجارة العالمية إلى 2.4 في المئة، من 0.9 في المئة سابقا، مدفوعا بشكل رئيسي بتدفق الواردات إلى الولايات المتحدة قبل رفع الرسوم الجمركية ونمو تجارة السلع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وبدأت دول مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول شرق آسيا، وحتى دول خليجية مثل الإمارات، في تكثيف مفاوضاتها التجارية الثنائية والإقليمية.
ويأتي هذا الاتجاه في محاولة للحد من اعتمادها على السوق الأميركية، أو على الأقل ضمان استقرار التبادل التجاري في حال تصاعد الحمائية الأميركية.



