غابت الحركة العمالية في لبنان منذ سنوات طويلة عن مقاربة أوضاع العمال والموظفين، لا بل كانت متماهية مع الطبقة الحاكمة بعد أن أصبحت تابعة نسبياً لهذه القوى في إنتخابات مُعلّبة. ورغم الأزمة الإقتصادية الطاحنة بقي صوت نقابات العمال خافتاً لا بل شبه غائب عن المطالبة بحقوق العمال والموظفين المسحوقين سحقاً غير مسبوق تاريخياً. فلم تشهد الساحات أي تحرّك فاعل، مما جعل الطبقة الحاكمة (آلهة الطوائف) وأرباب العمل يطمئنون اكثر ولا يكترثون بأي مطالب محقة للفقراء.
لا يعرفون العمال
المدير التنفيذي للمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين د. أحمد الديراني في حديث مع صحيفة «نداء الوطن»، لفت إلى أن «الخطوة الأولى تقضي بمعرفة وتمييز النقابات العمالية الموجودة في لبنان والكثير منها وهمي. فالإتحاد العمالي العام الذي يضم نقابات عمال لبنان الوهمية وغير الوهمية، لا يزيد عدد العمال المنتسبين إليه عن الـ %5، حتى ان قنوات التواصل مع هؤلاء غير مفتوحة، كما أن بنية الاتحاد ضعيفة. إذاً، هو بعيد عن العمال في تركيبته، الأمر الذي لا يخوّله تمثيلهم. بالتالي لا يملك القرار ولا القدرة اللازمة للتحرّك الفعال والشفاف».
ويسأل الديراني: «من يريد تنفيذ تحرّك أو إضراب عليه أن يقوم بذلك من خلال العمال، وإذا كان لا يعرف هؤلاء فكيف سيتكمن من تنظيم تحرك باسمهم؟». مضيفاً: «في حال حصلت التحركات ستكون ضد السياسة الإقتصادية والاجتماعية وضد الغلاء وضدّ من سبّب الإنهيار المالي في البلد، أي المنظومة الطائفية السياسية الحاكمة. في حين أن المنظومة هذه نفسها مسيطرة على الاتّحاد العمالي، حتى أن في الاتحاد من يمثّل المذاهب والطوائف، فكيف ستتحرّك الطوائف ضد بعضها البعض وتحاسب نفسها؟».
تحركات شكلية
ويرى أن «التحركات التي يدعو إليها الإتحاد العمالي العام شكليّة وهي مجرّد كلام لا يأتي بالنتائج المرجوّة، خصوصاً وأن مناشداته ومطالبه لا تُرفق بقوة الضغط المطلوبة كونه لا يملكها أساساً. كذلك، لا يحاول الاتحاد إعلان إضرابات وغيرها من التحركات، نظراً إلى عدم قدرته على إتخاذ قرارات كبيرة وجدية نتيجة ارتهانه للمنظومة الحاكمة الطائفية والمذهبية».
ويصف الديراني وضع العمال بـ «المأسوي. ويقول: «نمرّ اليوم في أزمة مالية صعبة واضيفت اليها الأوضاع الأمنية، والكثير من المؤسسات صرفت عدداً من موظفيها بعد أن حاولت تخفيض الرواتب، وأغلب المؤسسات هي العاملة في القطاع السياحي والمطاعم والفنادق، إضافةً إلى المؤسسات الأكثر تأثّراً بتداعيات الأزمة الراهنة. كلّما واجه العمال أزمات مثل هذه، ليس لديهم من يحميهم ويدافع عن حقوقهم، ويبقون في النهاية الفئة الخاسرة».
وزارة العمل
أما بالنسبة إلى دور وزارة العمل على هذا الصعيد، فيوضح أن «هناك الكثير من الإجراءات التي يجب على الوزارة إتخاذها حمايةً للعمّال، مثل منع الصرف التعسفي وفرض التعويضات القانونية في حال حصلت عمليات الصرف. لذا المطلوب من الوزارة التدخل لدى أصحاب العمل والطلب منهم إيقاف الصرف فوراً. فهذه المؤسسات التي تتحجّج اليوم بالأزمة الأمنية الراهنة كسبب لطرد موظفيها حققت خلال فصل الصيف أرباحاً طائلة، وهي على أبواب مواسم قادمة (الأعياد وما بعدها) لتزيد مدخولها. ومن واجبها الوقوف إلى جانب العمّال والصمود لشهر أو إثنين. لكن دائماً ما تحتفظ الدولة وأصحاب العمل بالربح لنفسهم، أما الخسائر فيحمّلونها للعمال، وهذه عيّنة عن سبب المشاكل التي يواجهها العمال نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية السائدة «.
خط ساخن
ويدعو الديراني باسم المرصد العمالي «العمال والموظفين للتواصل من خلال الخط الساخن81018731، لاستقبال أي شكوى من أجل توجيه العمال وتوعيتهم على حقوقهم، ومساعدتهم على تقديم شكاوى في مجالس العمل التحكيمية»، مضيفاً: «يحاول المرصد أيضاً القيام بحملة توعوية في حال واجه العمال أي إشكال في عملهم. كذلك، نعمل حالياً على حملة للدفاع عن مصالح العمّال ضمن إطار «التجمع الوطني من أجل نقابات حرة»، الذي يضم نقابيين وناشطين وجمعيات. كذلك، نحن بصدد القيام بحملة ضغط إعلامي بالتعاون مع شبكة «عملي حقوقي» التي تعمل من أجل دعم ومساندة العمال النظاميين وغير النظاميين ودعمهم لتحصيل حقوقهم. والهدف توعية العمال ومعارضة الإجراءات المتخذة في حقهم في ظل الأزمة الحالية، والسعي إلى منع صرفهم أو على الأقل دفع حقوقهم الكاملة في حال نفّذ قرار الصرف».
تبعية للطبقة الحاكمة
ويتقاطع كلام الديراني مع رأي الخبير النقابي الدولي والدكتور في علم الإجتماع غسان صليبي، والذي يعتبر انه «باستثناء بعض أصحاب المطاعم والفنادق الذين اضطروا الى صرف عمال على خلفية أزمة الجنوب، إلا أن المشكلة تعود إلى ما قبل هذه المرحلة، وعمرها سنوات. وقد عجزت بعض النقابات بشكل عام والإتحاد العمالي العام تحديداً عن الدفاع عن حقوق العمال وذلك لأسباب عديدة».
بالنسبة إلى الاتحاد العمالي العام، يشرح صليبي أن «السبب الرئيسي لعجزه هو تبعيّته للطبقة الحاكمة، كون قيادته مؤلّفة من ممثلين عن تحالف أحزاب السلطة. هذا الأمر يُكبّل قراراته ونشاطاته. لذلك، نراه يقوم بتحركات قليلة بين الفينة والأخرى ليطرح مطالبه. وعندما لا يلقى تجاوباً من الطبقة الحاكمة يعود ويجمّد التحرّك لأنه لا يريد مواجهة السلطة والاصطدام معها».
ضعف الهوية والإنتساب
أما عن النقابات الأخرى، فيلفت صليبي إلى أنّ «هويتها ضعيفة، بمعنى أن ليس لديها القدرة الفعليّة على القيام بتحركات ضاغطة ولا الدخول في مفاوضات جماعية، لأن التمثيل النقابي في لبنان ضعيف جداً. فالإحصاءات التي كنّا نجريها كانت تبيّن أن الحركة النقابية اللبنانية تمثل نسبة 5% تقريباً من عدد الذين يحق لهم الإنتساب إلى النقابات، وهي نسبة قليلة جدّاً. لكن، أرقام الإنتساب أعلى في نقابات المصالح المستقلة مثل كهرباء لبنان والمياه والريجي، بينما في القطاع الخاص (أي المؤسسات الصغيرة التجارية والصناعية) فالنقابات فيه إما غير موجودة أو ضعيفة لجهة الهوية والإنتساب».
ويضيف في حديثٍ مع «نداء الوطن»: «يفترض أن تجمع النقابات الأجراء بغض النظر عن طوائفهم، على اعتبار أن لديهم مصالح اقتصادية مشتركة. غير أن العكس يحصل في الاتحاد العمالي العام، حيث أن معظم الاتحادات الموجودة فيه صورية، وهي عبارة عن أسماء فقط. المسؤولون فيها معيّنون من قبل أحزابهم، بالتالي وجودهم شكلي هدفه ضمان صوت في الإتحاد العمالي من أجل التأثير على قراراته. والدليل بالأرقام هو أن الاتحاد العمالي يتكون من حوالى 60 اتحاداً وأغلبها تابعة حزبياً وغير مستقلة، وتصل نسبة الإتحادات المذهبية والمركبة طائفياً إلى54%».
عمل صامت
من جهته، يعلّق رئيس الإتحاد العمالي العام بشارة الأسمر على المطالبة برفع الأجور في القطاعيْن العام والخاص، مشيراً إلى أنه «قبل أحداث غزة، كان الاتّحاد يتواصل مع الهيئات الاقتصادية لبحث موضوع إعادة تقييم الأجور وزيادة بدل النقل وغيرها من الملفات الملحّة، إلا أن الحرب أخرت المباحثات».
وفي معرض ردّه على الإنتقادات الموجهة ضد الإتحاد يعتبر خلال حديث مع «نداء الوطن»، أن «مجال الإنتقاد في لبنان واسع. فليخبرنا المنتقدون عن فعالية واحدة ناجحة داخلياً لنتشبث بها. الإتحاد العمالي يفتخر بأنه لا يزال جامعاً لكافة الأطراف ضمن طبقة نقابية لا إنشقاقات فيها، ولسنا من فريق واحد في ظل هذا الإنقسام الحزبي والطائفي الحاد الذي نعيشه».
ويلفت إلى أن «ليس هناك من قضية إلا ويتابعها الاتحاد. ونقوم بأكثر ما في وسعنا للوصول إلى النتائج التي تخدم مصلحة العمال»، مُعدّداً بعض القضايا التي يواكبها الاتحاد، منها: «الضمان الاجتماعي وحصوله على سلفاته ومستحقاته من وزارة المالية، العمل على حلّ قضيّة موظفي الجامعة اللبنانية المتعاقدين، مواكبة إضراب إدارة هيئة السير من أجل تحصيل حقوق الموظفين، ملاحقة قضية المتعاقدين مع وزارة التربية ومقدمي الخدمات لديها».
ويوضح أن الاتحاد «في ظل الظروف الحالية، يواصل عمله بصمت من دون عنتريات. فالعمل على الأرض والتعاطي المباشر والجدي مع الناس هو الذي يأتي بالنتائج المرجوّة، أما التباهي فلم يفد البلد سابقاً ولن يسمح بتحقيق أي هدف».
أثر الأحداث الأمنية
أما رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبدالله، فيرى أن «البلد في أزمة كبيرة أضافت عليها الأحداث الأمنية الطين بلّة». ويتابع «الأحداث في غزة فلسطين أثرت بشكل كبير على المزارعين في الجنوب، فضُرب موسم الزيتون والدّخان، قاضياً على جهد وتعب عام كامل. وصحيح أن «الريجي» إشترت المحصول، لكن بسعر منخفض. ولم نتمكن من القيام بتحرك لأن صوت المدفعية والطيران أقوى من صوتنا، لا سيما في المنطقة الحدودية. وبدل الحصول على تضامن إجتماعي من الحكومة وأصحاب العمل، صرف العمال من قبل الكارتيلات إن كان من قبل التجار أو المطاحن أو الأفران أو مستوردي المواد الغذائية والمحروقات والأدوية أو المستشفيات، فبدل أن يفكّر هؤلاء بعقلانية، آخذين في الإعتبار وضع البلد وإحتمال تعرّضه لحرب، تصرّفوا بطريقة غير مرحّب بها. هذا عدا عن دولرة الأسعار ورفعها رغم أن ذلك مخالف للقانون، في حين أن الحكومة تغطي المستفيدين من الدولرة وكأنّها موظفة لديهم».
خدمة العدو!
وعن غياب التحركات، يشرح أن «الإتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين رفع الصوت، لكننا بدأنا نسير بين النقاط لأن البعض فسّر موقفنا بأنّه خدمة للعدوان الإسرائيلي على اعتبار أن البلد يُقصف ونحن نطالب بالتحرك»، كاشفاً عن «دعوة الهيئات النقابية والشعبية الأسبوع الماضي للمشاركة في لقاء تشاوري خلال الأسبوع الحالي بهدف أخذ موقف والدعوة الى تحركات للمطالبة بمعالجة القضية الإقتصادية والإجتماعية والصحية».