هي موجة هجرة ثالثة، وتبدّل في الطبقات الاجتماعية ومستوى معيشتها، وخسارة في الانتاج المحلي، وفقدان للمهارات الكفوءة. هذه من تداعيات الازمة المالية الاقتصادية والاجتماعية التي هي بين الأسوأ في العالم التي يمرّ بها لبنان، ولا يزال لغاية اليوم عاجزاً عن إعادة قطاره الى السكّة الصحيحة.
قد تكون الهجرة في لبنان خصوصاً هجرة الشباب، هي العامل السلبي الاخطر في المدى البعيد على الاقتصاد اللبناني، ولو انه يُنظر لها اليوم على انها «أوكسجين» الاقتصاد. فقد تفاقمت وتيرة الهجرة منذ اندلاع الازمة في 2019 وتفشي وباء كورونا وما نتج عنه من ركود اقتصادي، بالاضافة الى انفجار مرفأ بيروت الذي جاء بمثابة الضربة المؤلمة التي دفعت كثيرين الى الهجرة.
إنقراض الطبقة الوسطى
من نتائج الازمة انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي من 54 مليار دولار في عام 2018 إلى حوالى 19 مليار دولار في عام 2022، اي بنسبة تراكمية قدرها 45 في المئة، وشبه انقراض للطبقة الوسطى بعد ان أصبح أكثر من 40 في المئة من السكان تحت خط الفقر، وهجرة حوالى 250 ألف شخص، معظمهم من الشباب في السنوات الثلاث الماضية بحثاً عن فرص أفضل في الخارج، وفقاً لمعهد التمويل الدولي.
ومع تفاقم الأزمة في لبنان، اعتبر مرصد الأزمة في الجامعة الاميركية في بيروت أن لبنان يعيش الموجة الثالثة من الهجرة الجماعية الكثيفة في تاريخه بعد الموجتين الاولى والثانية في أواخر القرن التاسع عشر، امتداداً حتى فترة الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916)، حيث يُقدر أن 330 ألف شخص هاجروا آنذاك، والحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990) التي دفعت بحوالى 990 ألف شخص الى الهجرة.
حالة يأس
77 في المئة من الشباب اللبناني يفكرون بالهجرة أو يسعون إليها. وقد دفع اليأس من الوضع المعيشي المزري في لبنان البعض الى اللجوء لطرق هجرة خطيرة نحو أوروبا عن طريق البحر، وخير دليل على ذلك حادثة غرق زورق يحمل نحو 80 لبنانياً، وسورياً، وفلسطينياً في نيسان قبالة سواحل طرابلس.
الاسوأ من ذلك، ان أفق النمو واستعادة الاقتصاد عافيته غير مشجعة مع تقديرات البنك الدولي بأن لبنان يحتاج بأحسن الاحوال الى 12 عاماً ليعود الى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام 2017، وبأسوأ الاحوال الى 19 عاماً، مما ينذر انه خلال الاعوام القادمة سيواصل مئات الآلاف من اللبنانيين الهجرة من بلدهم سعياً للاستثمار والعمل او الدراسة او حتّى التقاعد في الخارج. ومع تسارع وتيرة الهجرة، يرى صندوق النقد الدولي ان هجرة العمالة الماهرة تحديداً، ستزيد من إضعاف فرص النمو المستقبلية للبلاد.
منفعة للمدى القصير… ولكن
في هذا الاطار، اعتبرت منسقة التنمية البشرية والحماية الاجتماعية في البنك الدولي سابقاً حنين السيّد ان هناك حتماً أثراً ايجابياً في المدى القصير، لهجرة الشباب لجهة التحويلات المالية الى لبنان خصوصاً بالنسبة للاسر التي تعاني من الظروف المعيشية السيئة والمصنّفة تحت خط الفقر، والتي يمكن ان تعتاش من التحويلات التي تردها من اقارب في الخارج ولو حتّى كانت تتراوح بين 200 الى 500 دولار شهرياً. لكنّ السيّد شددت لـ»نداء الوطن» في المقابل، على ان المشكلة الاكبر برأيها هي الاستنزاف الحاصل في الرأسمال البشري الذي يهاجر لبنان والذي تخسره البلاد بوتيرة متسارعة. لافتة الى ان خلق وظائف منتجة ووظائف قائمة على المهارات بحاجة الى قوى عاملة ماهرة والى الرأسمال البشري الذي يهاجر لبنان، والذي بمعظمه ينتمي الى فئة الشباب والكفاءات والمهارات المطلوبة على المديين المتوسط والبعيد لتطوير لبنان وتفعيل انتاجه ونموه الاقتصادي. وبالتالي، اعتبرت السيّد ان آخر التقديرات المتوفرة لعدد المهاجرين والمقدّرة بحوالى 160 ألف مهاجر مؤخراً، تعتبر نسبة كبيرة وخطيرة في حال كانت دقيقة.
منافسة من اليد العاملة السورية
من جهته، أوضح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين ان الازمة الاقتصادية والمعيشية التي يمرّ بها لبنان منذ العام 2019، بالاضافة الى منافسة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانية أدّت الى ارتفاع كبير باعداد المهاجرين والمسافرين خلال السنوات الماضية، مشيراً الى ان تعريف المسافرين هم الافراد الذي غادروا لبنان للعمل في الدول العربية والأفريقية والذين من المتوقع ان يعودوا الى بلدهم الأمّ بعد فترة زمنية، لان تلك الدول لا تمنح الجنسية للمقيمين فيها. اما المصنفون كمهاجرين لبنانيين فهم من غادروا الى دول اميركية واوروبية وغيرها، تخوّلهم الحصول على الجنسية الاجنبية.
خفت الوتيرة في 2022
ولفت شمس الدين الى ان اعداد المهاجرين قبل اندلاع الازمة الاقتصادية والمالية في لبنان اي في العام 2017، بلغت 18 ألفاً و863 مهاجراً، وفي العام 2018 بلغ العدد 33 ألفاً و129 مهاجراً. أما في العام 2019 فقد وصل العدد الى 66 ألفاً و660 مهاجراً، وفي العام 2020، هاجر 17 ألفاً و720 لبنانياً، وفي العام 2021 ارتفع العدد الى حوالى 80 ألفاً، ليعود وينخفض في العام 2022 الى 59 ألفاً و269 مهاجراً.
وبالتالي تشير تلك الارقام الى انه في خلال 6 سنوات ماضية اي حوالى نصف عقد من الزمن هاجر اكثر من 275 ألف لبناني، أي ما يمثّل حوالى 5% من سكان لبنان المقدّرين وفقاً للامم المتحدة بـ 5,5 ملايين في العام 2022.
وأشار شمس الدين الى انه خلال العام الماضي، ونتيجة الركود الاقتصادي العالمي والحرب الروسية الاوكرانية، تراجعت وتيرة الهجرة من لبنان. لكنّه توقع استمرار تلك الموجة بسبب ندرة فرص العمل محلياً ورضوخ اللبنانيين لأية فرصة عمل في الخارج ولو براتب منخفض من اجل الحصول على العملة الصعبة وتحويل الاموال الى عائلاتهم في لبنان. ويُقدر البنك الدولي في هذا الاطار، ان شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف الـ 2019 وان 61 في المئة من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43 في المئة.
«أوكسجين» الإقتصاد
كما أكد شمس الدين ان حجم التحويلات المالية للبنانيين العاملين في الخارج، الى بلدهم الامّ، لا يمكن تحديده فعلياً لان جزءاً كبيراً من تلك التحويلات لا يمرّ عبر القنوات الرسمية اي النظام المصرفي او شركات تحويل الاموال، بل يتمّ تسليمه نقداً. ورغم ان البنك الدولي يقدّر تلك التحويلات المالية بحوالى 7 مليارات دولار سنوياً، «إلا ان الحجم الفعلي مقدّر بضعف ذلك، بدليل ان البنك الدولي نفسه وفي احدث تقرير له حول لبنان، اشار الى نمو الاقتصاد النقدي الى نحو نصف إجمالي الناتج المحلي».
لذلك رأى شمس الدين انه رغم وجود تداعيات سلبية لنمو اعداد المهاجرين في لبنان، إلا ان الهجرة حالياً تعدّ «الاوكسجين» الذي يتنفس منه اللبنانيون والذي يتيح لهم الصمود بوجه الازمة الاقتصادية والمالية والمعيشية والاستمرار بالعيش، لافتاً الى انه لولا نمو الهجرة لكانت اكثر من 250 ألف أسرة لبنانية اي حوالى مليون لبناني يستفيدون حالياً من تحويلات اللبنانين العاميلن في الخارج، بوضع اقتصادي ومعيشي صعب ومزرٍ.
شيخوخة السكان
في المقابل، شرح ان سلبيات الهجرة تتمثل بتحوّل الشريحة الاكبر من المقيمين في لبنان الى فئة عمرية متقدمة او الى مسنّين مقابل تقلّص حجم الفئة العمرية من الشباب، ومما يزيد من خطورة هذا الامر هو هجرة المتخصصين والمهنيين، خاصة من العاملين في القطاعات الطبية، كالأطباء والممرضين، والعاملين في قطاع التعليم العالي والثانوي من مدرسين وأساتذة جامعات، حيث قدرت نقابة الممرضات والممرضين هجرة 1600 ممرض وممرضة منذ 2019، في حين سجلت الجامعة الاميركية في بيروت وحدها رحيل 190 أستاذاً خلال عام واحد، يشكلون حوالى 15 في المئة من الجسم التعليمي.
وفي النتيجة رأى شمس الدين ان الشعب اللبناني قد يصبح عاجزاً عن العمل وبحاجة للاستعانة او الاعتماد دائماً على العمالة الاجنبية، التي بدورها ستؤثر سلباً في المدى البعيد على الاقتصاد اللبناني نتيجة توجّه تلك العمالة الى تحويل رواتبها الى الخارج، وبالتالي المساهمة في خروج جزء كبير من السيولة النقدية الاجنبية من البلاد، ليصبح لبنان شبيهاً بدول الخليج.
30 ألفاً سنوياً
بدوره، ذكّر الخبير الاقتصادي بيار الخوري بأرقام الهجرة المسجّلة بعد الحرب الاهلية والتي على حدّ تعبيره «لا تبشّر بالخير للمستقبل»، مستنتجاً ان سنوات ما بعد الحرب سجلت معدل هجرة 30 ألف لبناني سنوياً. واعتبر ان الموجة الجديدة للهجرة حالياً، هي موجة كبيرة وقد بلغت ذروتها في 2021 مع مغادرة حوالى 80 ألف شخص البلاد. مشيراً الى ان العام 2020 سجل تباطؤاً في وتيرة الهجرة بسبب وباء كورونا واجراءات السلامة وحظر السفر، في حين ان التراجع المسجل في 2022 نتج عن استعادة العجلة الاقتصادية في لبنان حركتها، بينما ستحدد الحلول الممكنة والمنتظرة للازمة في لبنان في حال تطبيقها، مسار الهجرة في 2023.
نمو الإقتصاد يعيدهم
وأكد الخوري ان الاقتصاد اللبناني لطالما شكل العامل الاساس في عودة المهاجرين، مما يبعث بالطمأنينة نوعاً ما، ويشير الى ان الهجرة قد تكون مؤقتة «إلا إذا تحوّلت الى هجرة جماعات ذات طابع طائفي معيّن مما يؤثر على النسيج الطائفي اللبناني». وإن لم تكن الهجرة من هذا النوع، فهي تعتبر عاملاً صحّياً للبنان، حيث انه عند تعذّر تنمية الاقتصاد اللبناني من خلال المكوّنات المحلية، تتم تنميته من قبل اللبنانيين المهاجرين، لان ثروة لبنان الاساسية هي الموارد البشرية والمهارات والكفاءات اللبنانية. وبالتالي رأى ان الهجرة لا تشكل عاملاً مضرّاً بالاقتصاد اللبناني بل تكمن مخاطرها في امكانية الحفاظ على الكفاءات في المدى البعيد، في حال ادّت الازمات الاقتصادية الى تقلّص الاستثمار بالقطاع التعليمي الذي يخرّج الكفاءات الى سوق العمل. مع الاشارة الى ان الهجرة تساهم أيضاً في إثقال وتنمية المواهب والخبرات عندما يفتقر البلد الامّ الى الامكانيات لتوظيف كفاءاته بالطريقة المناسبة، علما انه سبق واستعان لبنان بكفاءاته المهاجرة التي عادت الى لبنان عندما تحسّنت فرص الاستثمار.
رأسمال وطني حول العالم
أكد بيار الخوري الى ان الهجرة تساهم ايضاً في تشكيل رأسمال وطني لبناني عبر العالم يستطيع مزاحمة الرساميل الاجنبية التي قد تتوافد الى لبنان في مراحل الازدهار والاعمار، مما يصبّ حتماً في مصلحة اللبنانيين. وشدد الخوري على ان اللبنانيين الذين جرّدتهم الازمة الاقتصادية الحالية من مختلف مكوّنات العيش الكريم، لعب حجم المهاجرين اللبنانيين عبر العالم دور المنقذ الوحيد الذي حافظ على كرامتهم.
وختم: «إيجابيات الهجرة مجتمعة تشكل متنفّساً للاقتصاد اللبناني. هذه هي طبيعة اقتصادنا وهذه هي الموجة الثالثة من الهجرة. وخلال الموجات السابقة، شهدنا عودة المهاجرين الى بلدهم الأمّ إن من خلال الاستثمارات أو تحويل الاموال أو السياحة.