الجميع ينادي بمكافحة الفساد والهدر وينخرط في الحرب المعلنة عليهما. يكاد لا يخلو تصريح او خطاب في هذه الايام من عبارات التنديد بهذه الآفة المزمنة التي التهمت الاخضر واليابس في الدولة اللبنانية. إنّها «موضة» الموسم بالنسبة الى كثيرين. النواب، الوزراء، السياسيون، والقضاة، تصدّروا الصفوف الامامية للحملة على الفساد، لكن المفارقة انه وما ان بدأ الاقتراب من الملفات المريبة حتى راحت ترتسم حولها الخطوط الحمر وترتفع امامها الدروع المذهبية والسياسية.
إذا كان معروفاً انّ المياه تُكذّب الغطّاس، فانّ أكثر ما يخشاه اللبنانيون الذين لدغتهم التجارب السابقة هو ان تُخفِق حملة الاصلاح المفترض في الغوص حتى قعر الملفات والقضايا المشبوهة وان تكتفي بالعوم على سطح المياه في سباحة استعراضية، ليس إلاّ. وكم من مرّة ثبت في الماضي بالدليل القاطع انّ شيكات مكافحة الفساد بلا رصيد، وانّ الصحوات المتقطعة على حقوق الدولة والناس ما هي سوى هبّات عابرة لا تلبث ان تخبو في مواجهة الاختبارات الحقيقية، بفعل قوة الامر الواقع.
ومن المفارقات التي تُضعف الثقة في محاولات التصحيح والتصويب المتجددة، انّ الدولة المتحمسة لمكافحة الفساد والهدر، والمتخوفة من انهيار اقتصادي، والمتخبطة في دين عام كبير تجاوز 86 مليار دولار، والمُثقلة بعجز مالي متفاقم بلغ في موازنة 2018 نسبة 35 في المئة.. هذه الدولة المترنحة لا تزال تنفق بنحو عشوائي، بل مُترف أحياناً، وبالتالي لم تعطِ بعد إشارات كافية ومُقنعة الى تحسّسها بحجم التحدّي المالي الذي تواجهه، من قبيل المبادرة على سبيل المثال، الى شد الاحزمة واتخاذ اجراءات تقشفية صارمة، وهذا أضعف الإيمان في معركة مفصلية من النوع الذي يُخاض حالياً.
ولئن كان التصدّي للفساد والهدر يحتاج الى آلية مركّبة، إلاّ انّ خيار التقشف هو أقل تعقيداً بالتأكيد، وتطبيقه يتطلب فقط توافر نيّة حقيقية لدى أصحاب الشأن، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، علماً أنّ قراراً حقيقياً بشد الاحزمة من شأنه أن يُعطي رسالة ايجابية الى المواطن اللبناني القلق والى المجتمع الدولي الذي يربط قروض «سيدر» بالاصلاحات.
وليس التوظيف العشوائي والمخالف للقانون، الذي ضبطه «التفتيش المركزي» بالجرم المشهود في الوزارات والمؤسسات العامة سوى أحد المؤشرات التي تعكس «الخِفّة» في التعاطي مع النزيف المالي في جسم الدولة. إذ ان هناك مظاهر أُخرى للاستهتار الرسمي وللإنفاق العبثي، وهي تتخذ أشكالاً مختلفة وأنماطاً متعددة، علماً انّ هذه «السواقي» المالية الجانبية تلتقي جميعها في نهاية المطاف عند مصب واحد هو الهدر.
ومن بين تلك «المزاريب» التي لا مبرّر لها، «التضخّم» في عدد السيارات الحكومية المُعتمدة في الوزارات والادارات، على حساب الخزينة.
ويفيد تقرير قيد الإعداد، لدى شركة «الدولية للمعلومات» انّ هناك نحو 12 ألف سيارة يستخدمها حالياً الموظفون الرسميون، على اختلاف درجاتهم، في حين انّ المرسوم الرقم 27 الصادر في تاريخ 18 كانون الثاني 1955، كان قد حدّد مجموع السيارات الحكومية المسموح بها بـ11 سيارة حصراً، تتوزع على عدد محدود جداً من المواقع الرسمية في الدولة، مع استثناء الجيش وقوى الامن الداخلي من هذا المرسوم.
لكن، ومع مرور الوقت، راح عدد السيارات يرتفع كثيراً عبر موافقات أوتوماتيكية في مجلس الوزراء، بحيث انّ بنود شرائها الواردة في جداول الأعمال كانت تُقرّ في معظم الاحيان بطريقة تلقائية، ومن دون التدقيق في دوافعها والحاجة اليها، إضافة الى استسهال قبول هبات في بعضها. علماً انه كان يمكن طلب تعديل تلك الهبات، بنحو يتناسب مع الحاجات الأكثر الحاحاً.
ووفق «الدولية للمعلومات»، أناط مجلس الوزراء بنفسه، منذ سنوات طويلة، قبول طلبات شراء السيارات، قافزاً فوق ضوابط المرسوم الموجود، ومن دون ان يبادر الى تعديله وتوسيع بيكاره قانونياً، تجنباً، على ما يبدو، للحرج والخلاف اللذين قد يترتبان على محاولة تحديد الجهات الرسمية الاضافية التي يحق لها استخدام سيارات حكومية، فيما «العرف» المُعتمد يسهّل الاستجابة الارتجالية لمعظم طلبات الحصول عليها. علماً ان ليس هناك مبرر لهذا الفائض من الطلبات، كونه لا يتناسب مع حجم االحاجات العملية من جهة، ولا يتلاءم مع الواقع المالي الصعب للدولة من جهة أخرى.
اما الطامة الكبرى، فهي انّ الدولة المُنهكة والمستنزفة تتحمّل من خزينتها أعباء الصيانة وشراء البنزين للسيارات الـ12 الف الموجودة في الخدمة، وقد بلغت هذه الكلفة عام 2018 وحده 195 مليار ليرة لبنانية، من ضمنها مبلغ 173 مليار ليرة لشراء المحروقات!
ولم تخفف من وطأة هذه الكلفة الباهظة الضوابط التي وضعتها وزارة التنمية الادارية لعمليات شراء السيارات، وهي: ان لا يزيد سعر الواحدة منها عن 20 ألف دولار أميركي، وان لا تتوافر فيها الرفاهية والزوائد (فرش جلد، فتحة في السقف..) وان تقتصر على المحتويات الاساسية مع تكييف، وان تكون 4 «سيلاندر»، ان يكون «الفيتاس» اوتوماتيكياً، وعدم تجاوز سعة المحرك CC 20.
وتفيد «الدولية للمعلومات»، انّ الاصول القانونية لا تجيز للوزير او المدير العام او رئيس المصلحة او رئيس الدائرة أو أي موظف آخر استخدام سيارات تملكها الدولة في تنقلاته، سواء الشخصية او المتصلة بعمله، بل يحق له الحصول على بدل انتقال محدد أو بدلٍ مالي معيّن، في مقابل نسبة الوقود التي تستهلكها سيارته الخاصة اثناء تنفيذه للمهمات الموكلة اليه.
ومع ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، توجد في حوزة احدى المؤسسات الخدماتية العامة 251 سيارة من بينها 60 سيارة سياحية، أي مخصصة للموظفين الكبار، لا لمتطلبات العمل، وتصل كلفة السيارات الـ60 تلك الى 143 مليون ليرة سنويا!
ظاهرة السيارات الحكومية «المتكاثرة»، الايجارات الباهظة للأبنية الحكومية، التلزيمات بالتراضي، «قضم» الاملاك العامة ولا سيما البحرية منها، الهدر في عدد من المرافق الحيوية.. تتعدد الاسباب، والفساد واحد، في وقت يؤكّد احد الخبراء ان تجفيف ينابيع الفساد والهدر، جدياً، يمكن ان يعود على الدولة بمردود يقارب نحو 4 مليارات دولار.