في زمن تفرض فيه أولويات الناس التخلي عن القنابل الموقوتة المزروعة بين الأيادي على أشكال مختلف أنواع تكنولوجيا العصر، يبدو أن الـPAGERS كان بمثابة بديل لضمان نوع من الانضباط المطلوب في أوساط عناصر حزب الله والموظفين في مؤسساته، في التوقف عن استخدام الهواتف النقالة. إلا أن ما لم يُحسب له حساب، هو أن يتحول الانتشار الواسع لـPAGERS في مناطق جغرافية محددة بهويتها، الى “إشارة” دقيقة لأهداف حربية، فأوقعت ما أوقعته من ضحايا، بين شهداء وجرحى.
يصعب تفسير ما حصل من خرق فاضح لأمن البيئة التي تعني حزب الله تحديداً يوم الثلاثاء، من دون تعاون جدي من قبل الجهة المستوردة لكميات الـPAGERS مع السلطات الأمنية المخابراتية. وانطلاقاً من هنا قد يبقى الأمر لغزاً يسترعي عرض كل الاحتمالات الممكنة. ليبقى السؤال البديهي المطروح في مثل هذه الحالة، ما هو شرح السلطة اللبنانية الرسمية لهذا الخرق؟
حتى إعداد هذا التقرير لم يكن قد صدر بيان رسمي، يعرض أقله خيوط نتائج أولية لتحقيقات يجريها أي من الأجهزة الأمنية التي قد تكون معنية بالأمر. وهذا ما يبقي كل الحديث في إطار التحليلات، وفي أفضل الحالات، الاستنتاجات.
العلم والاستخبارات
ولكن مع ذلك يبقى لشرح مثل هذه الخروقات، مرجع توفره الهيئة الوطنية للأمن السيبراني. وإلى رئيسته الدكتورة لينا عويدات توجهت “المدن” في رحلة البحث عن إجابات تذلل ولو بعض التخبط الذي ساد سواء على المستوى العلمي، أو حتى السياسي.
برأي عويدات أن “معرفة ما حصل يوم الثلاثاء يتطلب جهداً مزدوجاً يجمع بين العلم والاستخبارات”. قد يكون هذا الجهد مشابهًا بطبيعته لما تم بذله في تحويل أجهزة الـPAGERS إلى قنابل موقوتة بأيدي مستخدميها. فهي ترى أن هذا التحول بني على أسس تحضيرية، ربما رافقت مراحل التصنيع أو جاءت على شكل تدخلات خلال عملية نقل هذه الأجهزة إلى لبنان. لذلك تشدد عويدات على “ضرورة التدقيق في كافة مراحل وصول تجهيزات الـPAGERS إلى لبنان”. وترى أن سهولة وصول هذه الأجهزة إلى أيادي الناس يشير إلى معرفة مسبقة بعملية استقدامها، مما يتطلب التحقيق في مرحلة ما قبل مغادرتها من منشأها. وتؤكد على أهمية التدقيق في كافة التفاصيل المتعلقة بها، خصوصًا شهادات المنشأ. وتشير إلى أن التعديلات التقنية قد تكون أُدخلت على هذه التجهيزات قبل وصولها إلى لبنان، مما يستوجب معرفة خصائصها في بلد المنشأ الذي استوردت منه، وهو ما يحتاج إلى تحقيق طويل إذا توافرت المعلومات المطلوبة. ووفقاً لعويدات، يجب أن يكون التحقيق المطلوب ذو طابع تقني أمني ومتعدد الجوانب.
اعتداء عن بعد
من ناحية أخرى، ترى عويدات أن ثقة حزب الله بأجهزة الـPAGERS لم تكن سوء تقدير لمخاطر الجهاز بقدر ما كانت اطمئناناً لاستخدامه كأداة دقيقة أمنيًا في ظل بيئة غير مستقرة. وتشير إلى أن العامل الأساسي الذي سهل الخرق الاستخباراتي لهذه التجهيزات هو التنبه إلى الكميات المستوردة منها وأماكن توزيعها الجغرافية ضمن بيئة محددة. وهذا ما أعطى أجهزة الـPAGERS هوية خاصة بها، مهدت الطريق لعملية تدمير جماعي لها.
تعتقد عويدات أن ما حدث يشبه اعتداءً عن بعد أكثر من كونه هجومًا سيبرانيًا. وتوضح أن أسهل طريقة لاستهداف الأجهزة عن بعد تتم عبر التلاعب بها صناعيًا وتحويلها إلى قنابل موقوتة تنفجر بشكل شامل وفي وقت محدد، خصوصاً بالنسبة لأجهزة الـPAGERS التي تعتبر تجهيزات ضعيفة ومعرضة للخطر. وأضافت أن “كل ما نستهلكه اليوم يُشكِّل بنى تحتية حرجة، وشبكة الـPAGERS ليست استثناءً، مما يجعل كل خدمة تُستخدَم عن بُعد عرضةً للاستهداف، وبالتالي يتحول الاستخدام العام إلى خطر عام”.
أما الوقاية، وفقًا لعويدات، “فلا تتوقف فقط عند حماية الشبكة من الاختراقات، بل تبدأ وفق استراتيجيات الأمن السيبراني والاتصالات عن بعد، بتصنيع الأجهزة الدقيقة محليًا”. ونظرًا لأن هذا الأمر غير متاح في بلد مثل لبنان، حيث يعاني اللبنانيون من قيود الحاجة، يمكن الاستنتاج أن الخدمات العامة في لبنان مهددة بالتحول إلى مشاكل عامة.
الوقاية..
وتعلق عويدات على الأعباء التي سيفرضها هذا الحدث على صعيد تحصين لبنان في أمنه السيبراني قائلة: “الجيد في لبنان أننا لم نصل إلى تحول رقمي شامل، لكن هذا لا ينفي أن استخدام الإنترنت في لبنان مرتفع للغاية، وقد سبق الناس الدولة في هذا المجال”. لذلك ترى أنه يجب على كل فرد أن يقدّر الخطورة التي قد تنجم عن هذا الاستخدام المتزايد للإنترنت. وتضيف أن التعليمات في هذه الحالة تُعنى بالسلامة العامة، لكن التساؤل هو: هل نعلم فعلياً مصدر الخدمات التي نستهلكها؟ وهل نحن قادرون على التحكم في ذلك؟
في ظل بيئة غير مستقرة مثل لبنان، تعتبر عويدات أن طرق التوجيه والإرشاد يجب أن تتغير، مع التشديد على أهمية عدم الاستخفاف بهذه التوجيهات. فالحروب المستقبلية ستكون كلها عن بعد. وترى أن الخطأ ليس في العلم، فهو ثابت ولم يتغير، بل في استخداماته التي بدأت تميل نحو الشر بدلًا من الخير.