حملت مسوّدة “مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها” جهداً احترافياً غاب عن مصرف لبنان منذ انفجار الأزمة الماليّة في 2019، لكنّ إقراره لا يحتاج إلى احتراف بقدر ما يحتاج إلى موازين قوى مختلفة.
لورشة إعادة تنظيم القطاع المصرفي عنصران أساسيّان: حصر الخسائر، ثمّ احترام تراتبية امتصاصها، ابتداء من ملّاك المصارف وانتهاء بالمودعين في آخر السلّم. يتصدّى مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف للعنصر الثاني فيما يقفز فوق الأوّل.
في مسألة تراتبية تحمّل الخسائر، لا حاجة إلى القول إنّ ما حدث منذ عام 2019 هو عين الانتهاك الصريح لمبدأ التراتبية، فقد وقعت الخسائر على المودعين أوّلاً وأخيراً، فيما تنصّل أصحاب البنوك من تبعاتها، بل تُركت لهم حرّية التصرّف بما بقي من أموال المودعين التي هي تحت أيديهم. وشاعت أخبار عن إدارات تهرِّب الأموال من البنوك إلى المساهمين على شكل رواتب ومكافآت ومصاريف إدارية وتعاقدات مع شركات ذات صلة، وتفاقمت تلك الممارسات بعدما منع مصرف لبنان توزيع أيّة أرباح إثر أزمة 2019.
هنا لا بدّ أن يُسجَّل لمشروع القانون أنّه لحظ نصّاً يوجب على المساهمين في البنوك “إعادة فائض الأموال” التي حصلوا عليها بشكل مباشر أو غير مباشر وحوِّلت إلى الخارج، سواء من عوائد الأرباح الجائرة أو من الرواتب والمكافآت وغيرها، إذا كانت تفوق متوسّط النسب المدفوعة في القطاع المصرفي. هذا النصّ (المادّة 46) مهمّ من حيث المبدأ، وإن يكن من الصعب وضع آليّات عمليّة لتنفيذه.
تمّ الاعتداء على مبدأ آخر منذ 2019 هو “التساوي بين الدائنين ضمن المرتبة الواحدة”، إذ تمّت محاباة فئة من المودعين النافذين على حساب السواد الأعظم منهم، فأُتيح لبعضهم السحب أو التحويل إلى الخارج، ومنحت بعض البنوك أصولاً عقارية ضخمة للنافذين من مساهميها وعملائها مقابل شيكات بالليرة اللبنانية بعد انهيار قيمتها.
لكن قبل الوصول إلى تراتبية الخسائر، لا بدّ من تحديد الخسائر، وهذا ما لا يوليه مشروع القانون العناية اللازمة. والإشكال هنا أنّ مصرف لبنان الذي يتولّى الدور الأكبر في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، هو نفسه ضالع في الأزمة، بل هو المتعثّر الأكبر في سداد المطلوبات المتوجّبة عليه بالعملات الأجنبية للبنوك المحلّية، وهذا هو السبب الأكبر لتعثّر البنوك في سداد الودائع لعملائها.
رسملة المصارف… و”الفيل في الغرفة”
إلا أنّ القسم المتعلّق بإعادة رسملة مصرف لبنان لا يحوز ما يكفي من الاهتمام، بل إنّه يقتصر على مادّة واحدة (المادّة 44). في هذه المادّة تحدّد الدولة سقف مساهمتها في إعادة رسملة المصرف المركزي بمليارين ونصف مليار دولار من خلال إصدار سندات مالية أو أية وسيلة أخرى. وفوق ذلك، تتحدّث المادّة عن “تسديد المصارف لكامل ديونها بالعملة اللبنانية وبالعملات الأجنبية لمصرف لبنان”، لكنّها لا تأتي على ذكر توظيفات البنوك لدى مصرف لبنان بالعملة الأجنبية، التي تراوح بين 70 و80 مليار دولار، وذاك هو “الفيل في الغرفة” الذي لا يتحدّث عنه أحد. فلو أنّ مصرف لبنان التزم سدادها لما كانت مشكلة الودائع كبيرة.
معروف أنّ خطّة “لازارد” والخطّة المحدثة التي أعدّتها الحكومة الحالية تتّفقان على شطب معظم تلك التوظيفات بغرض إطفاء خسائر مصرف لبنان. وفي حين أنّ مشروع القانون الجديد لا يشير إلى شطبها جزئياً أو كلّياً، فإنّه يتحدّث عن “إطفاء العجز في رأسمال مصرف لبنان بالعملة اللبنانية بشكل تدريجي على مدى خمس سنوات (…) ويتمّ إلغاء الأعباء المؤجّلة الناتجة عن تطبيق مبدأ الـ Seigniorage* وشطب سائر الخسائر المؤجّلة”. وهذا النصّ لا يمكن أن يطبَّق إلا عبر شطب معظم إيداعات البنوك بالعملة الأجنبية.
هروب الدولة من تحمّل الخسائر
بهذا المعنى، يحيّد مشروع القانون مصرف لبنان عن أعباء الخسائر، ويحيّد الدولة عن تحمّل فاتورة الأزمة إلا تحت سقف مليارين ونصف مليار دولار. ثمّ يقارب أزمة الودائع من باب أنّ المودعين يجب أن يخسروا، لكن مع مراعاة مبدأ التراتبية، بحيث يخسر أصحاب المصارف قبلهم، ثمّ يُصار إلى البحث عن موارد لتخفيف خسارتهم من خلال تصنيف الودائع بين مشروعة وغير مشروعة، واستعادة “فائض الأموال” التي استحوذ عليها المساهمون في البنوك بغير وجه حقّ، بالإضافة إلى وضع حدّ أدنى محميّ يبلغ مئة ألف دولار للودائع المؤهّلة، و36 ألف دولار للودائع غير المؤهّلة.
هكذا تكون الدولة خارج الأزمة، فيما هي أصلها. والمعضلة الأخلاقية هنا أنّ الدولة استفادت من الأزمة كثيراً، إذ مسحت 60 مليار دولار من ديونها بالعملة الوطنية بفعل انهيار الليرة، وتوقّفت عن سداد الديون والفوائد بالعملة الأجنبية، وانخفض حجم إنفاقها على الرواتب والأجور بأكثر من 90% في السنوات الماضية، ثمّ تخرج من الأزمة كما لو أنّها مشكلة بين البنوك والمودعين والمقترضين لا شأن لها بها.
ما هو أهمّ من كلّ هذا النقاش التقنيّ أنّ أزمة 2019 تمّت تصفيتها بالفعل على أربع سنوات بقوّة الأمر الواقع السياسي والماليّ والاقتصادي. ولا يمكن قلب حصيلة هذه التصفية بمشروع قانون، وإنّما يتطلّب ذلك تغييراً واضحاً في موازين القوى التي تصنع القرار وترسي التوازنات في مجلس النواب.
حتى اليوم، ما زال أصحاب البنوك والمقترضون الكبار الذين كسبوا ثروات هائلة من سداد القروض بالليرة أو عبر الشيكات، ما زال هؤلاء في موقع فرض الشروط. ولا يكفي أن يكون هناك حاكم مهنيّ على رأس مصرف لبنان لقلب الموازين.
* Seigniorage: مفهوم لا ترجمة عربية له، ولم يترجمه القانون حتّى، وهو يعني القيمة التي يحقّقها البنك المركزي من سلطة إصدار النقد.