غالباً ما تتصيّد الدول والشركات العابرة للقارات فرصها في أرض منكوبة، حال لبنان اليوم. تتهافت الحكومات وكبرى الشركات للاستحواذ على عقود استثمار هنا وصفقات احتكار هناك، لتبسط بذلك سيطرتها على بلد تُباع قطاعاته المنهارة بأبخس الأثمان.
يشهد لبنان حركة نشطة لسياسيين ورجال أعمال على خط تلزيمات في ما تبقى من مرافق عامة. وليس العيب بجذب مستثمرين عرب وأجانب لإحياء مرافق وقطاعات دمرها فساد السلطة، إنما ببناء تلك الاستثمارات على حساب انهيار الدولة، ولحساب سياسييها، لاسيما منهم الذين يستقدمون المستثمرين الأجانب وشركاتهم.
شراكات وتزكيات
ومن بين الشركات العابرة إلى لبنان تبقى مجموعة CMA-CGM الأكثر حظوة حتى اللحظة بتفرّدها في امتلاك خط حكومي مباشر إلى مختلف القطاعات. فنراها منذ بداية الأزمة في لبنان عام 2019 تتنقل بين قطاع وآخر، تبرم العقود وتعقد الصفقات للاستثمار في شتى المجالات من إدارة الموانئ والنقل البحري إلى البريد والتوضيب الزراعي والتصدير والخدمات الرقمية وإنتاج المكسّرات وغير ذلك، وقد نشهد لاحقاً دخول CMA-CGM إلى المطار وقطاع الإعلام وربما الرياضة.
كيف لا، ورئيس مجلس الإدارة الرئيس التنفيذي لمجموعة CMA CGM اللبناني الفرنسي رودولف سعاده، يرتبط بعلاقة وثيقة مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أثمرت عقوداً وشراكات في قطاع البريد ومرفأ طرابلس، ويجري العمل على تطويرها وترجمتها في قطاعات أخرى، خصوصاً أن لسعادة مكانة خاصة لدى الفرنسيين، يترجمها قربه من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولا ننسى ان سعادة كان قد رافق ماكرون في زيارته الى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت.
CMA-CGM في المرافىء
يتّسع طموح شركة CMA-CGM للاستثمار في لبنان مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتداعي المؤسسات والقطاعات، وهو ما يتيح التزام استثمارات وشراء شركات بأسعار “محروقة”. وقد بدأت مجموعة CMA-CGM الرائدة عالمياً في مجال السفن ومحطات الموانئ والنقل البحري من قطاع الموانئ في لبنان ولن تنتهي فيه.
المجموعة التي تتخذ من بيروت مكتباً إقليمياً لها، يغطي السعودية وسوريا والعراق ومصر والسودان والأردن وقبرص واليونان، تدير محطات الحاويات في مرفأي بيروت وطرابلس، كمساهم وحيد في الشركتين المشغّلتَين.
ففي شباط 2022 رست مناقصة إدارة وتشغيل وصيانة محطّة الحاويات في مرفأ بيروت على شركة CMA Terminals لمدّة 10 وهي الشركة التابعة مجموعة CMA-CGM الرائدة عالمياً. وهي تحقق اليوم النسبة الأعلى من حجم أعمال محطّة الحاويات، وتعد خطّة استثمار لتجديد المحطّة وتحديثها.
وكانت قد استحوذت مجموعة CMA-CGM عام 2021 على أسهم شركة Gulftainer لبنان، وهي الشركة التي تدير محطة حاويات طرابلس، المرفأ التجاري الثاني في لبنان. بمعنى آخر وضعت المجموعة يدها على النقل البحري في لبنان وعلى القطاع المرفئي فيه، وتعمل اليوم على تعزيز استثماراتها المرفئية، من خلال دخولها مجال الخدمات اللوجستيّة عبر شركة الخدمات اللوجستيّة التابعة لها.
… وقطاع البريد
أما في قطاع البريد فقد فاز تحالف شركتي Colis Privé وMerit invest الشهر الفائت (آذار 2023) بعقد تلزيم شركة liban post واستلمت قطاع الخدمات والمنتجات البريدية في لبنان من سلفها (ميقاتي) بمزايدة دارت علامات استفهام حولها، لاسيما أن التحالف المذكور كان العارض الوحيد.
وأكثر ما يلفت الإنتباه في تلزيم liban post هو الترويج إلى أن التحالف الذي يضم شركتي Colis Privé وMerit invest تعود إحداها لمجموعة CMA-CGM، أما الثانية فشركة فرنسية مستقلة، إنما حقيقة الأمر أن الشركتين ولدتا من رحم المجموعة نفسها CMA-CGM المملوكة من رودولف سعادة.
تعليم وتدريب كوادر
أطلقت مجموعة CMA-CGM عام 2022 برنامج Excellence Fund for Lebanon، يتعلق بتقديم المنح الجامعية المخصصة للطلاب اللبنانيين، يتم من خلاله توزيع 240 منحة للجامعة الأميركية في بيروت (AUB) وجامعة القديس يوسف (USJ) على فترة 3 سنوات. وتضاف هذه المنح إلى 200 منحة دراسية على مدى 10 سنوات للطلاب اللبنانيين الراغبين في متابعة دراستهم في جامعة HEC Paris الفرنسية.
وبإطلالة على الاختصاصات الجامعية التي تستحوذ الاهتمام الأكبر من المجموعة، والتي تحظى بمنحها الجامعية، يمكن فهم الاستراتيجية التي تعمل وفقها وتؤسس كوادرها المستقبلية لتلبية طموحاتها التوسعية في القطاعات في لبنان، فالطلاب المستفيدون من المنح هم اولئك المتخصصون في الإدارة والعلوم والاقتصاد والهندسة فقط دون سواهم. ويتم اختيارهم وفق معايير دقيقة بالتعاون مع الجامعتين المذكورتين. بمعنى آخر تؤسس مجموعة CMA-CGM كوادرها البشرية وتستثمر طاقاتهم لدعم توسعها في البلد.
في الزراعة والإنتاج
ولا تقتصر اهتمامات مجموعة CMA-CGM على الشحن البحري والمرافئ، فقد أنشأت مركزاً لوجستياً من خلال إحدى شركاتها CEVA Logistics في منطقة تعنايل البقاعية. يتخصص المركز في تطوير الإنتاج الزراعي، لاسيما الفاكهة والخضار، وتحسين نوعيته بما يتناسب مع متطلبات ومواصفات الأسواق الأوروبية وتوضيبه وتخزينه، وصولاً إلى تصديره إلى الأسواق الخارجية لا سيما إلى أوروبا وانكلترا.
كما قامت شركة Merit Holding التابعة لمجموعة CMA-CGM في العام 2021 باستحواذ 100 في المئة من أسهم شركة الرفاعي اللبنانية الرائدة في تجارة المكسرات والقهوة. وتعد شركة الرفاعي من أبرز العلامات التجارية اللبنانية، ويعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1948.
أبرمت مجموعة CMA-CGM صفقة الرفاعي بسعر مغر جداً بلغ حينها 50 مليون دولار وهو يقل كثيراً عن قيمتها المقدرة بـ70 مليون دولار، إلا أن الأزمة التي تعرضت لها الشركة ووقوعها تحت وطأة الديون بعد انتشار فيروس كورونا، وتفجر الأزمة الاقتصادية في لبنان، اضطر مالكوها لبيعها، فكانت CMA-CGM حاضرة لاقتناص الفرصة.
مركز رقمي وأكاديمية
ولا تكتمل أعمال مجموعة CMA-CGM في لبنان من دون دخول قطاع التكنولوجيا. فقد اقامت مركز خدمات مشتركة ومركز رقمي The Hub عام 2019 ومقره في “Beirut Digital District” وسط بيروت. ويستهدف المركز تلبية حاجات CMA-CGM من حيث التحول الرقمي عبر تطوير المشاريع الرقمية للمجموعة. علماً أن تطوير المشاريع كان يحصل سابقاً في الهند أو الصين وقد انتقل اليوم إلى لبنان.
وكان رودولف سعادة قد أعلن في وقت سابق أن لدى مجموعة CMA-CGM مشروعاً لإنشاء أكاديمية تُعنى بالمهن الرقمية سواء blockchain أوinternet of things أو artificial intelligence وستعمد الى إشراك المجموعات الرقمية العالميّة المعروفة لإنشاء هذه الأكاديمية. ولفت إلى أن الأكاديمية ستسمح للمجموعة بتدريب موظفيها في لبنان وخارجه وحتى موظفي شركات لبنانية أخرى.
وحسب المجموعة، تمّ خلق نحو 800 وظيفة في غضون عامين، وأصبحت المجموعة تضمّ نحو 1000 موظّف في لبنان، كما سيتمّ خلق 400 فرصة عمل أخرى في السنة المقبلة.
طموحات المجموعة وشركاتها
يبدو من الواضح أن مجموعة CMA-CGM تؤسس لاستثمارات واسعة وبعيدة الأمد في لبنان، ولن تكتفي بالقطاعات التي دخلتها في السنوات الأخيرة. فثمة من يتحدث عن تحضير الأرضية لشراء المجموعة أسهماً من شركة طيران الشرق الأوسط MEA، لاسيما بعد دخولها في مجال الاستثمار بالنقل الجوي مع شركة Air France. كما تتطلع إلى الدخول على خط الاستثمار في مشروع توسعة المطار وإنشاء مبنى جديد للمسافرين terminal 2 بعد تعليق العقد الذي وقعته وزارة الأشغال مع شركة LAT مؤخراً.
وحسب المعلومات، فقد حاولت مجموعة CMA-CGM شراء صحيفة لوريان لوجور L’orient Le Jour غير أن طلبها جوبه بالرفض.
عديدة هي الشركات التي تعمل تحت مظلة مجموعة CMA-CGM والتابعة لها، فهي تمتلك شركات APL وANL وCNC وContainerships وMercosul وCEVA LOGISTICS وComanav وCMA Ships وCMA Terminals و Terminal Link، كما استحوذت المجموعة مؤخراً على شركة الخدمات اللوجستية الأميركية Ingram Micro CLS واشترت محطة كاملة في ميناء لوس أنجلوس، وحصة ضخمة في”Air France-KLM”، لتصبح رابع أكبر مساهم في الشركة.
من هنا بات واضحاً سعي رودولف سعادة إلى تأسيس امبراطورية تابعة CMA-CGM في مختلف القطاعات في لبنان، مقتنصاً فرصة تدهور الوضع الاقتصادي، ومستغلاً علاقاته السياسية في لبنان، واهتمام الدولة الفرنسية بلعب دور على صعيد إعادة إعمار البلد في المرحلة المقبلة.