بسرعة عادَ الجنوبيون إلى قراهم بعد إعلان وقف إطلاق النار، باستثناء أبناء القرى الحدودية. وعلى عكس تلك السرعة، يسير ملفّ إعادة الإعمار، بدءاً من رفع الأنقاض والتعويض على المتضرّرين. وتحكم عوامل كثيرة هذا المسار. فكلّ شيء يحتاج إلى الوقت لإنجازه، لاسيّما وأن انتهاء الحرب لم يثبت بعد، فهناك مهلة الستين يوماً لانسحاب العدوّ الإسرائيلي من القرى الحدودية، مع ما يرافقها من مخاوف حول تجدُّد الحرب. كما أن تمويل إعادة الإعمار غير محسوم، وما يقوم به حزب الله من دفع لبعض المساعدات للمتضرّرين تمكّنهم من استئجار منازل وتجهيزها، وتسجيله حجم وكلفة الأضرار، لا يعني أن مسار التعويض المالي سهل، بل تشير التجارب إلى هوّة كبيرة بين الأكلاف الحقيقية للأضرار وبين ما تسجّله لجان الحزب المكلّفة بالكشف وتخمين كلفة الأضرار.
أجمل ممّا كانت؟
لم يوقف الحزب تقديم مساعداته للنازحين طيلة فترة الحرب. وتنوّعت وسائل المساعدة من دفع إيجارات المنازل إلى مساعدات مالية نقدية أبرزها ما دُفِعَ عبر منصّة “صامدون” التي كانت تدفع 300 دولار لكل عائلة نازحة في المناطق الساحلية و400 دولار للعائلة في المناطق الجبلية. إلاّ أن عدم حصول جميع العائلات النازحة على هذه المساعدة رغم تسجيلها على المنصّة، كان بداية طريق الشكّ حول الحصول على التعويضات المتناسبة مع حجم الأضرار بعد انتهاء الحرب والعودة إلى القرى. كما زادت حدّة التساؤلات مع تداعي ما سمّيَ بمحور المقاومة وبروز التشكيك بتخلّي إيران عن الحزب وتالياً عن بيئته الحاضنة.
تطمينات الحزب حول التعويضات وإعادة الإعمار كانت تتحدَّف من كلّ حدب وصوب، حتى قبل وقف إطلاق النار. فالأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، ذكَّرَ النازحين في تشرين الأول الماضي، بعبارة الأمين العام السابق السيد حسن نصرالله “ستعود أجمل ممّا كانت”، وهي عبارة أطلقها نصرالله إبّان حرب تموز 2006. والتذكير هو تطمين من قاسم بأن حزبه سيعيد الأمور إلى نصابها وستعود البيوت والمؤسسات المتضرّرة أجمل ممّا كانت عليه قبل الحرب.
على أنّ الواقع لا يتطابق حتى الآن مع الوعود. والتململ من الواقع لا ينحصر في المجالس الخاصة بل ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. إذ نشرَ شاب يدعى حسين شحرور، في صفحته في فيسبوك، صورة “شيك” صادر عن مؤسسة القرض الحسن بقيمة 215 دولاراً، وقال إن المبلغ هو قيمة ترميم “الأضرار بالسقف والجدران”. فبموجب ما كشفه “الإخوان في اللجنة”، فإن “السقف متصدِّع ويحتاج لتوريق وعزل ودهان”. وبعد قرار اللجنة المكلَّفة بالكشف عن الأضرار، كتب شحرور “وصلتني رسالة بوصفي من أشرف الناس، وكان التعويض بنظر اللجنة 215 دولاراً. علماً أنّي استعنت بمهندس وأصحاب اختصاص وشركة ترميم، وقدَّروا كلفة الترميم بما يقارب 2000 دولار”. وبحساب بسيط، كتب شحرور أن ترميم الأضرار يحتاج إلى “برميل طرش، برميل عزل، برميل معجونة، توريق، دهان، ترابة، رمل، جسور حديد، حدَّاد… هذه برأيكم تكلّف 215 دولار؟”. وتساءَلَ أمام هذه الخلاصة “مَن سيعيد بيتي أجمل ممّا كان؟”. ولفت شحرور النظر إلى أن تغطية كلفة نزوحه رتّبت عليه “ديناً بنحو 4000 دولار”.
موعد الدفع مجهول
رغم الإجحاف في تخمين كلفة الأضرار، ينظر بعض المتضرِّرين إلى ضرورة “البدء من نقطة ما، وإن لم تكن مشابهة لما كانت عليه الأمور قبل الحرب”، وفق ما أكّده أحد المتضرّرين في حديث لـ”المدن”. ومع ذلك، فإن نقطة البداية تلك لا تزال مجهولة بالنسبة إليه، إذ أنها مرهونة بموعد دفع المبلغ المالي الذي قرّرته لجنة الكشف عن الأضرار.
محنة الرجل الذي فَضَّلَ عدم الكشف عن اسمه، تبدأ من “طريقة تقييم حجم الأضرار. فإحدى المهندسات أتت مع اللجنة للكشف على الأضرار، وسجَّلَت بأنّه لديّ شقّتان تحتاجان للهدم الكلّي ولم تذكر قيمة التعويض. لكنّي تكلّفت على بناء كل شقة 75 ألف دولار، فضلاً عن محلَّين فيهما معمل لتصنيع لاصق للبلاط، وفيهما مواد للتصنيع بـ32 ألف دولار. ولديّ شقة ثالثة متضرّرة أيضاً لكنّي أسكن فيها أنا وعائلتي وتحتاج إلى ترميم. ومع قيمة المعمل يصبح مجموع الخسائر 300 ألف دولار“. والمعضلة الأكبر بالنسبة للرجل، هي توقيت الدفع. فهو، بحسب ما يقول، “راضٍ بقيمة نصف ما خسرته، لكن أريد مبلغاً نقدياً في يدي لأبدأ به أيّ عمل أعيش منه مع عائلتي. فلا يمكن الانتظار بلا عمل. وأريد تركيب الزجاج لشقّتي التي أسكنها الآن رغم أنها متضرّرة”.
بالتوازي، تلقّى الرجل إجابتان كانتا سبباً لإطلاقه الشتائم في وجه أفراد اللجنة. الإجابة الأولى من المهندسة التي قالت له “ما في مصاري هلّأ، بدّك تطوِّل بالك”. أما أحد أفراد اللجنة فأجابه ممتعضاً “ماذا قدَّمت في هذه الحرب، بعض الأبنية؟ نحن قدَّمنا دَماً”.
الشهادات كثيرة وتلتقي مع مَن لم يحصل على تعويض مناسب بعد حرب تموز 2006. فالتجربة السابقة تؤشِّر على تكرارها اليوم مع أن حجم الدمار وأحوال المتضرّرين الاقتصادية أعنف بكثير ممّا خلّفته حرب تموز، أي أن حاجة المتضرّرين لتعويضات مالية سريعة، باتت أكبر. لكن “ليس بيدنا حيلة”، يقول أحد المتضرّرين “فالحزب هو الخَصم والحكم. هو مَن يشخِّص ويقرِّر حجم الدمار وكلفته وهو مَن يدفع وهو مَن يحسم في حال الاعتراض، ومَن سيعترض علناً في هذه الظروف؟ فالكل ينتظر على أمل تحصيل شيء ما. لكننا بالنتيجة نخشى أن نكون قد تعرّضنا لوعود خادعة بالتعويض”.
ما يسجّله الحزب من أضرار وما يدفعه حالياً، يشبه المهدّئات التي لا تشفي المريض. ولذلك، ليس متوقّعاً أن تخفت حدّة الأصوات المعترضة على أدائه ما لم تبدأ عملية إعادة الإعمار وتُدفَع الأموال بشكل يتناسب مع حجم الأضرار. علماً أن تقييم الحزب للأضرار، لا يشمل أعمال الديكور والحجر والجفصين والإضاءة وأي أعمال تجميلية. وهذا الاستثناء بنظر المتضرّرين، يؤدي إلى خسائر كبيرة لن تُعَوَّض “في حين أن مَن اختار فتح الحرب ويَعِدُ بإعادة كل شيء أجمل مما كان، عليه الوفاء بوعده، لا إجراء استثناءات تكبِّد المتضرّرين خسائر ليست في الحسبان وتبخِّرَ أموالاً ادّخروها أو دفعوها لتحسين منازلهم وأراضيهم”.