إذا سار كلّ شيء وفقًا للمتوقّع، لن يمّر مرسوم مشروع قانون إصلاح القطاع المصرفي بعد جلسة يوم الخميس المقبل، التي دعا إليها رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي.
مصير مشروع القانون
مصير المشروع الراهن سيكون تمامًا كمصير مسودّة مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي التي طُرحت قبل بدايات شهر تشرين الثاني، على طاولة مجلس الوزراء، وتمامًا كمصير كل ما سبقها من مشاريع وخطط لإعادة الهيكلة منذ العام 2020. في كل مرّة، تعود الأمور إلى النقطة نفسها: الطعن بفكرة إعادة الهيكلة منذ البداية، قبل مناقشة تفاصيل الخطط نفسها أو آليّات التعامل مع الخسائر. غير أنّ المختلف هذه المرّة، هو نضوج البديل الذي تحضّر له جمعيّة المصارف منذ أن طرحت خطتها الأولى ردًا على خطّة حكومة حسّان دياب: تحويل الودائع إلى ديون عامّة.
كل ما سبق، لا يعني التسليم بمثاليّة أو اكتمال أو عدالة المشروع المطروح أمام الحكومة. إذ ثمّة ما يكفي من ثغرات كان من المفترض أن يتم الغوص في مناقشتها، قبل أن يُقال إن المطروح يحمل الحد الأدنى من العدالة في التعامل مع أزمة القطاع المصرفي.
غير أنّ المشكلة لا تكمن في خسارة فرصة مناقشة المشروع نفسه، بل تكمن في الطريق الذي سيسير نحوه لبنان خلال العقود المقبلة، بعد تصفية كل نقاش يدور حول عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو بعد الإطاحة بكل احتمال لإعادة الهيكلة. ثمّة طريق قاحلة ومظلمة ستسير نحوها أجيال من اللبنانيين، كنتيجة لما يجري هذه اللحظة بالتحديد. وعنوان هذه الطريق: تحميل الدولة مسؤوليّة الخسائر.
كيف تمّ التآمر لإسقاط مبدأ إعادة الهيكلة؟
ما جرى خلال الأيّام الماضية كان واضحًا، لجهة اتجاه الأمور نحو إسقاط مبدأ إعادة الهيكلة نفسه، وليس تفاصيل مسودّة مشروع القانون نفسها. بمعنى أوضح، لم تقتصر مضامين الهجمة على الآليّات التي ينص عليها المشروع، والتي يفترض أن تخضع إلى نقاش علمي وتقني لتقويمها. بل صوّبت الهجمة على فكرة وضع معايير للتعامل الخسائر المصرفيّة المتراكمة، في مقابل تبنّي طرح “تحمّل الدولة لمسؤوليّة سداد الخسائر”. عند هذه النقطة، لم يعد مهمًا البحث في مضمون المسودّة، التي لم تُنشر بشكل رسمي أصلًا، بقدر ما بات المهم مناقشة ضرورة إعادة الهيكلة أولًا.
الهجمة الحاليّة، كما سابقاتها، جاءت هذه المرّة من مصادر متعدّدة. غير أنّ الجديد هو دخول لاعب جديد، أدّى دور البطولة على نحوٍ غير متوقّع، وهو مجلس شورى الدولة.
فعلى بُعد أيّام قليلة من الجلسة الحكوميّة، وبالتوازي مع إنجاز المسودّة الأولى من مشروع القانون، قرّر المجلس الموافقة على مراجعة جمعيّة المصارف، التي تعتبر أنّ مسؤوليّة معالجة الخسائر التي تراكمت في تعاملاتها مع مصرف لبنان تقع على عاتق الدولة اللبنانيّة. وبهذا الشكل، وتحت عناوين شعبويّة وقراءة سطحيّة جدًا وغير علميّة لميزانيّات مصرف لبنان، قرّر المجلس إبطال العنصر الأساسي الذي تقوم عليه خطّة الحكومة (أو أي خطّة تحمل الحد الأدنى من الجديّة)، وهو معالجة فجوة المصرف المركزي.
بالتوازي، جاءت الطعنة الأخرى من جانب المصرف المركزي نفسه، وبطريقتين. فبعدما ساهمت حاكميّة المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف في صياغة مشروع القانون نفسه، تملّص سريعًا الحاكم بالإنابة وسيم منصوري من المشروع بعد تسرّب بعض تفاصيله، وأشار إلى أنّ دوره اقتصر على إبداء الرأي وإعطاء المشورة خلال صياغة المشروع. وبالتوازي، كانت لجنة تعديل النظام المحاسبي المعتمد في مصرف لبنان تُثبّت أعمال التزوير التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة، والتي راكمت على الدولة ديوناً جديدة بغرض تحميلها الخسائر المصرفيّة (بدل معالجة الخسائر في إطار عمليّة إعادة الهيكلة).
كل هذه الأجواء، كانت تترافق مع حملة شعواء، جرى شنّها إعلاميًا وسياسيًا على فكرة مشروع القانون نفسه. والملفت هذه المرّة أيضًا، هو أنّ جزءاً كبيراً من الحملة تم خوضه بإسم أطر وتنظيمات تحمل لواء الدفاع عن المودعين وحقوقهم. عناوين الحملة، لم تبتعد عن الأولويّات التي تحملها جمعيّة المصارف نفسها: مسؤوليّة الدولة في تسديد الخسائر، رفض تفليس المصارف، مواجهة المؤامرة على القطاع، الترحيب بقرار مجلس شورى الدولة…إلخ.
وبطبيعة الحال، كان من الضروري تسويق كل هذه العناوين والشعارات إلى جانب نظريّات المؤامرة التي باتت جزءًا من خطاب لوبي المصارف. فإسقاط إعادة الهيكلة، هو إسقاط لمؤامرة بدأت في آذار 2020، عندما تم اتخاذ قرار الامتناع عن دفع سنداد اليوروبوند. وهي مؤامرة يحملها “مصرفيون جدد”، يريدون أخذ مكان المصارف التقليديّة، والزج بخمسة مصارف جديدة بدل النظام المصرفي التقليدي.
تحويل الودائع إلى دين عام
أهداف الحملة إذًا، ليس طرح معايير جديدة إعادة الهيكلة، بمعنى وضع مبادئ أخرى لتعويم المصارف وإعادة رسملتها، أو توزيع الخسائر على المساهمين والمستفيدين من أرباح المراحل السابقة بشكل مختلف. المطلوب، أن لا يكون هناك إعادة هيكلة، ولا إصلاح لوضعيّة القطاع المصرفي أو ميزانيّاته.
والمطلوب مرّة أخرى، مسؤوليّة الدولة، أو تمامًا كما اقترحت مؤخرًا دراسة مولها مصرفيون: تحويل الخسارة، أي إلتزامات المصارف للمودعين غير القابلة للسداد، إلى ديون عامّة أو سندات خزينة، أو سندات تستحق على مؤسسة تدير أصول عامة، أو أيًا تكن الصيغة التي تخلّص المصارف من إلتزاماتها على حساب المال العام. وما يجري في مصرف لبنان ومجلس شورى الدولة وفصائل “حماية المودعين” المزعومة تذهب بهذا الاتجاه.
عند إضافة الخسائر المتراكمة إلى إلتزامات الدولة، أي عند تحميل الدولة مسؤوليّة سدادها، سيكون الدين العام بالعملات الأجنبيّة قد ارتفع ليلامس حدود الـ110 مليار دولار، أي ما يوازي 5.5 مرّات الناتج المحلّي (بعد إضافة سندات اليوروبوند). بهذا الشكل، سيكون المودع قد وقف في صفّ واحد مع الدائنين الأجانب، بانتظار السداد من دولة لا تملك ما يكفي من أموال لتشغيل إداراتها العامّة.
وبما أنّ معايير إعادة هيكلة الديون عند الإفلاسات تفرض تقليص الديون العامّة لتوازي حجم الناتج المحلّي، فعلى المودع أن ينتظر هيركات مقبل بنسبة 82% من قيمة وديعته، عند إعادة هيكلة الدين العام. وعلى أي حال، هذه هي تحديدًا القيمة المتوقّعة للاقتطاعات من قيمة سندات اليوروبوند بعد إعادة هيكلتها. وهذا ما يتوقّعه الدائنون الأجانب.
ثم ستكر سبحة الأحداث غير السعيدة: الحفاظ على خسائر بهذه القيمة، ونقلها من ميزانيّات المصارف إلى ميزانيّات الدولة، ستعني تعطيل مسار التفاهم مع صندوق النقد أولًا. وتعطيل أي محاولة لإعادة الدولة إلى أسواق المال والدين العامّة ثانيًا. ثم ستعني تعطيل المفاوضات مع حملة سندات الدين، الذي سيُذهلهم انضمام طوابير المودعين إلى قائمة الشركاء في الديون العامّة.
ما معنى أن تطلب من الدائنين الأجانب التنازل عن جزء من دينهم، لتسهيل سداد الدين، إذا كنت ستضيف –في الوقت نفسه- كتلة من الديون الجديدة على الدولة نفسها؟ وكيف ستفاوض الدائنين الأجانب، بحسن نيّة، وإنت تضيف ديوناً مفاجئة على الدولة، وتدعي أنّها ديون “كانت مخفيّة” حين قامت ببيع سندات اليوروبوند في الماضي؟ أي دائن سيقبل التفاوض مع مزرعة من هذا النوع، بدل مقاضاة الدولة ومحاولة وضع اليد على أملاكها؟ وفي النتيجة: لن يكون من المأمول أن يشهد اللبنانيون –ولا المودع نفسه- أي مسار جدّي للتعافي المالي، على مدى عقود من الزمن.
ستطول قائمة الكوارث التي سيشهدها اللبنانيون طوال هذه المدّة. غير أن الأكيد هو أن المستفيد هو طرف واحد: كل من استفاد من تراكم الخسائر الحاليّة. وكل من لا يريدون التعامل مع هذه الخسائر بمعايير عادلة، في إطار عمليّة إعادة هيكلة منظمة للقطاع المصرفي. هم المستفيدون من الهندسات، والفوائد الفاحشة، والأموال غير المشروعة، والأرباح المصرفيّة، وتهريب الأموال وعمليّات القطع الاحتياليّة. وهم الذين لا يريدون فتح الدفاتر المصرفيّة، لتقويمها على أساس ممارسات المرحلة السابقة.
ببساطة، كان من الممكن وضع حلول أكثر عدالة للمودعين وسائر المقيمين على حدٍ سواء. لكن مصلحة هذه الفئة النافذة لا تقتضي ذلك. لذا، سقطت كل مشاريع إعادة الهيكلة، ولذلك سيسقط المشروع الراهن.