عندما تزور المدير العام للمالية ألان بيفاني، في مكتبه في وزارة المال، وتسأله عمّا فعله طيلة 19 عامّا قضاها حتى الآن في منصبه، سيشير فورا الى عدد من الصناديق المكدسة فوق بعضها البعض، ويحمل كل منها اسم «ملف» ما، وسيجيب عن السؤال بثقة ملحوظة: الجواب موجود في هذه الصناديق.
هذه الصناديق لا تحتوي فقط النتائج التي أسفرت عنها عملية اعادة تكوين حسابات الدولة المالية من عام 1993 حتى عام 2017، بل تحتوي ايضا تقريراً من آلاف الصفحات، معززاً بالوثائق والمستندات والمراسلات ومحاضر التحقيقات والشهادات التي توثّق التدخلات في عمل الادارة ومنعها من انجاز مهمّتها في اعادة تكوين الحسابات، او اجبارها على مسّ هذه الحسابات بطريقة خاطئة، والتلاعب بقيودها لطمسها واخفاء حقيقتها. هذا التقرير سبق أن أحاله بيفاني منذ سنوات الى الجهات المختصة، كما أحال ملفات كثيرة الى الهيئات الرقابية والقضائية المعنية، التي حققت في بعضها وأهملت بعضها الآخر.
هذه الصناديق هي دليل بيفاني على انه لم يكن مكتوف اليدين. وهي دليله على ان محاولة تحميله مسؤولية عدم وجود حسابات مالية في السنوات السابقة ليست الا تعبيراً عن الضيق الذي يشعر به الرئيس السابق فؤاد السنيورة، الذي امضى اكثر من 10 سنوات بين عامي 1992 و2004 وزيراً للمال او وزير دولة للشؤون المالية، فضلا عن 5 سنوات امضاها رئيسا لمجلس الوزراء بين عامي 2005 و2009، جرى فيها انفاق المال العام وجباية الضرائب من دون اي اجازة من مجلس النواب، في مخالفة واضحة للدستور والقوانين والانظمة.
امس، لم يحمل بيفاني صناديقه الكثيرة الى «نادي الصحافة»، حيث عقد مؤتمراً صحافياً ضمن «حق الرد الشخصي» على ما تناوله به السنيورة منذ ايام. الا ان ما تحتويه هذه الصناديق كان حاضرا بقوّة في مطالعته الطويلة، بل كانت محرّكاً لها. قال بيفاني كلاماً كبيراً، يصدر لاول مرّة عن موظف اداري كبير، ضد من اسماهم «كارهي الدولة، الذين عاثوا فيها خراباً وأضعفوها وهمّشوا ادارتها وهشّموها»، والذين «لا يريدون لنا ان نحتفي بأي انجاز، بل لا يريدون ان نقدّم انجاز عملية اعادة تكوين حسابات الدولة المالية على حقيقته، اي بوصفه المثال الحي على ان الادارة العامة المتحررة من ممارسات بعض السياسيين، هي ادارة فعّالة وكفوءة وقادرة على بناء دولة مؤسسات وقانون».
اضاف بيفاني: «شهدنا في الايام الماضية تحرّكاً ممنهجاً على جبهات عدّة للتشويش على انجازنا والسعي الى تسييسه، كما شهدنا فصلاً جديداً من فصول قلب الحقائق وتزويرها، بهدف التهرّب من المسؤولية ورميها على الآخرين جزافاً. وفي هذا الاطار، تأتي محاولة تحميل المدير العام للمالية العامة المسؤولية عن واقع الحسابات المالية المزري منذ عام 1993، وكذلك المسؤولية عن التسريبات الاخيرة». وقال: «لست مخولا باعلان النتائج التي توصلنا اليها، ولست قاضيا كي ادين احداً، ولكنني املك ما يكفي من الادلة على انني منذ تسلمي مهامي في وزارة المال في عام 2000 واجهت يومياً اصراراً سياسياً هائلاً لعدم إنجاز الحسابات والمراهنة على التسويات»، مشيرا الى انه ما زال يحتفط بـ«نصيحة صديق» كي ينسى امر الحسابات، وردته بخط اليد على كتاب رسمي وجهه الى وزير المال في احدى المرّات، يتعلّق بآلية العمل على الحسابات وتشكيل فرق العمل لانجازها. «لم أنسَ الامر»، قال بيفاني، «وبات لدينا الآن الامكانية للاطلاع على حسابات مالية صحيحة ومدققة وفق الاصول، وهذا ما يغيظ كل من راهن على الفشل والعجز، فلم يجد دفاعا عنه سوى الهجوم على المدير العام للمالية العامة وتحميله المسؤولية، على النقيض تماما من الوقائع»، التي استعرض امثلة عنها، وأبرز صورا عن واقع المستندات الثبوتية التي كانت «مرمية للجرذان والعفن (…) وكانت عملية دفع لصندوق معيّن تسجل في حساب يعود الى مؤسسة أخرى فيحرم واحد ويعطى الآخر، وكانت الهبات تُصرف بلا حسيب أو رقيب (ملف الهبات)، وكانت أوامر الرؤساء تخالف الأصول وتخترع المراسيم الوهمية حيث لا يوجد مرسوم (كما في حال الهبة الأوروبية)، وتُفتح الحسابات خارج حساب الخزينة حيث لا يمكن مراقبتها في مخالفة صارخة للقانون، وتعطى سلفات إلى بعض الجهات ثم تبين المحاسبة ان المستلف له مال مع الدولة وليس العكس (سلف الاتصالات)، وكانت الانظمة تسمح بالتلاعب الدائم (مستند تغيير القيود)، والقروض لا تسجل، وحساب الدين ينقصه مليارات الدولارات الواقعة على أكتاف الأجيال الصاعدة، وتُوزع سندات خزينة دون قيدها، ويوجد سلف موازنة لم تسدد منذ التسعينات، وتمكنّا من تحصيل أموالها بفضل عملنا، لم تكن الشيكات تحصّل وقد حصلناها بعد مرور زمن طويل، وقد كشفنا ايضاً حوالات تم تزويرها بسبب إمكانية التلاعب بالانظمة وعدم ربطها ببعضها في ذلك الحين، كما اكتشفنا فوائد على القروض غير مسجلة بشكل صحيح وتم تسديد قرض غير مقرّ بقانون من مجلس النواب».
وأشار بيفاني الى ان كل مخالفة تمكنّ من توثيقها احالها فورا الى الهيئات الرقابية والقضائية المعنية، وبالتالي «ضميرنا مرتاح الى اقصى الحدود». وقال ان «المهمة المستحيلة انجزت. وقد فرضنا تصحيح القيود والأنظمة ضد إرادة السلطة السياسية غالبا. وها هي حسابات المهمة وحسابات المهمة العامة وقطوعات الحساب باتت جاهزة مع مئات آلاف القيود الصحيحة والمستندات. وحددنا موازين الدخول للمرة الاولى منذ عقود، وفعلنا ما كان البعض ربّما يأمل أن نعجز عن فعله (…) لم تنشر الحسابات بعد، وتسببت بكل هذا التوتر والتجني. وهذا دليل على ان عملنا له أهمية كبرى، لأنه يدحض مقولة عجز الدولة وعدم إمكانية المحاسبة».
امام هذه الوقائع المذهلة، حدد بيفاني 3 ضرورات دفعته الى عقد مؤتمره الصحافي. الاولى، «الا يصبح هذا الإنجاز الكبير عملاً نخجل به في الادارة، كما يريد البعض (…) فما تم انجازه على صعيد الحسابات يسمح أن تعود المهام الى من سلبت منه من قبل من خالف القوانين الإدارية وأطاح بأسس المؤسسات. ويسمح أن تعود الخبرات، التي عَملَ البعض على قتلها لضرب الخدمة العامة، وأن تعود الشفافية حيث لم يكن هناك حسابات مالية، ولا أظن أنه يوجد بلد واحد في العالم عوملت ماليته بهذا الشكل».
امّا الضرورة الثانية، فهي ان «احدهم استهدفني بالشخصي متسائلاً هل يوجد مدير عام؟ وتحدّث عن مسؤولياتي. وعن ضرورة أن أُسأل، وانا طبعاً أرحب بالسؤال. أليس غريبا ان يحملنا المسؤولية من حاول إلغاء دور المدير العام والإدارة بالكامل، ليهيمن على الوزارة بالمحسوبين والمستشارين والعاملين غير النظاميين (…) ان معظم الفظاعات جاءت في التسعينات قبل تعييني في الوزارة، وهي التي أعاقت العمل بشكل كبير كما يعرف الجميع. وأبشع ما يكون هو أن يتهرب المسؤول من مسؤولياته ويتجنّى ويعتدي على الشرفاء لأنه يظن ان الخطيئة تمر من دون حساب. وإني أسأل هذا الذي يتجرأ على مهنيتي: هل طلبت مني مرة بصفتك رئيسي المباشر أن أنجز الحسابات؟ ام أمرتني بعدم الاقتراب من هذا الملف وتركه بين ايدي جماعتك؟ ألستُ انا المسؤول يا سيّدي؟ ام انك اردتني مجرّد باش كاتب ومارست علي الترهيب والترغيب، وسألتني بالصراخ عن سعري؟».
امّا الضرورة الثالثة، فهي أن «الإدارة والمؤسسات لا يجوز أن تبقى بعد اليوم مكسر عصا لكل من يريد أن يتنصل من المسؤولية. كفى مقولة أن الإدارة فاسدة وانها مسؤولة عن كل المشاكل. إن الإدارة لا تفسد إلا إذا كان فوقها فاسدٌ».
وختم بيفاني: «ان كان هذا الكلام لا تقبله التركيبة، فأنا مستعد لمغادرتها فوراً. وان كان مقبولاً، فلنعط الاصلاح الزخم المطلوب كلٌ من مكانه».
الـ11 ملياراً جزء بسيط من الحسابات
اوضح المدير العام للمالية العامة الان بيفاني في مؤتمره الصحافي امس ان ما تم انجازه هو إعادة تكوين الحسابات المالية، وكشف الأخطاء والمشاكل والعجائب فيها، واحالتها بحسب الأصول الى السلطات المعنية، اما مسألة ما سمي «11 مليار دولار»، فهي من صلاحيات المجلس النيابي، وليست سوى جزء بسيط من مسألة الحسابات. أن إقرار الموازنات توقف عام 2006، وأدى ذلك إلى إنفاق غير مُشرّع تخطى الـ11 مليار دولار.
وقال: «ما زلنا نسمع إصرارا من البعض على منطق التسويات، على الرغم من ان الحسابات النهائية أنجزت بالكامل، اذ يتم الترويج ان الحل يكمن بلجنة تحقيق برلمانية، وكأن الامر سياسي وليس إدارياً قضائياً. هذا ليس من شأني لكنه غريب (…) كما يتم الترويج ان هذا العمل لا يمكن أن تقوم به سوى شركات المحاسبة الخاصة الدولية، تعبيراً عن عدم ثقة بالدولة، التي يفترض ان من يطرح هذا الحل كان من أركانها (…) كما يجري تصوير المشكلة انها تقنية بحت، أقول لهم ان الشق التقني انتهى، ولم يعد هناك مكان للتسويات التقنية».