صحيح أن الاقتصاد السوري كان يتحوّل، ولو بوتيرة بطيئة، إلى النموذج النيوليبرالي، عبر فتح الأسواق أمام الاستثمارات الأجنبية ورفع الدعم عن السلع الأساسية، والخصخصة التي طالت قطاعات أساسية، إلا أن النظام الاقتصادي في سوريا بقي، حتى سقوط النظام، مركزياً وموجّهاً نوعاً ما، خصوصاً لجهة التحكّم في الأسعار، ودعم السلع الذي شحّ في سنوات ما بعد العقوبات الدولية. أما المشهد الجديد الذي يُرسم أمامنا اليوم، فيَشي بأن الاقتصاد السوري مقبل على نموذج جديد، يلغي كل أشكال التوجيه، وهو ما يطرح سؤالاً: كيف سيكون وقع هذه الصدمة الاقتصادية على الأسر السورية؟
الجواب ليس بسيطاً. فالعوامل والمتغيرات كثيرة، ولا يمكن إسقاط تجربة على أخرى بالكامل، لكن يمكن استخلاص العبر من تجارب سابقة، لتحديد مخاطر هذا الانتقال. ولعلّ أهم تجارب المراحل الانتقالية، اقتصادياً، هي دول الاتحاد السوفياتي السابقة التي خرجت من النظام الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد، بشكل سريع. تجربة كهذه قد تكون مفيدة لاستقراء اقتصاد سوريا المستقبلي وعوارض هذا الانتقال.
تحرير الأسعار
قد تكون أولى مظاهر عوارض الانتقال من الاقتصاد الموجّه إلى «الاقتصاد الحرّ»، ارتفاع الأسعار. خصوصاً أن إحدى أبرز سمات الاقتصاد السوري، هي التحكّم في الأسعار في السوق عبر فرض عمليات بيع السلع بأسعار معينة. ومع استلام الحكومة الانتقالية، يبدو واضحاً أن التوجه إلى إلغاء كل هذه الإجراءات، ولو على مراحل. وبالتالي، إن فتح السوق أمام حرية التسعير تحت عنوان التنافس والشفافية، قد يؤدي إلى صدمة في الأسعار. يشير الباحث الاقتصادي ماريك دوبروفسكي، في ورقة بعنوان «ثلاثون عاماً من التحوّل الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي السابق: البعد الاقتصادي الكلي»، إلى انعكاس تحرير الأسعار على معدّلات التضخّم، لافتاً إلى أن هذا الأمر، الذي لم يكن ممكناً تأجيله بسبب النقص المادي في السلع، أدّى إلى ارتفاع سريع في أسعار السلع بنسب كبيرة. ففي عام 1992، تخطّت معدلات التضخّم في جميع دول الاتحاد السوفياتي السابقة 900%. هي نتيجة تلقائية، إذ إن «تحرير الأسعار» أتى بشكل مفاجئ، لأن كل الأسعار كانت تحت السيطرة، سواء عن طريق الدعم للإنتاج المحلي أو المستورد، أو عن طريق تحديد أسعار البيع بشكل مباشر. وهذا الأمر بدأ يظهر في الاقتصاد السوري، لا سيما في ارتفاع كلفة النقل العام بعد تحرير أسعاره، ثم سيظهر في سلع وخدمات أخرى كانت تحت السيطرة.
في عام 1992 تخطّت معدلات التضخّم في جميع دول الاتحاد السوفياتي السابقة 900%
أيضاً، أظهرت التجربة في دول الاتحاد السوفياتي السابقة، أن حجم إنتاج السلع والخدمات، انخفض بشكل دراماتيكي بعد تحرير الاقتصادات. يتحدث عن الأمر برانكو ميلانوفيتش في كتابه «الدخل واللامساواة والفقر أثناء الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق»، مشيراً إلى أن دول الاتحاد السوفياتي السابقة كانت تنتج في عام 1989، نحو 1.2 تريليون دولار، مُقدرة بحسب أسعار الصرف المنطقية وليس أسعار الصرف الرسمية، وهو ما كان يعادل الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية ألمانيا الاتحادية. أما في عام 1996، فقد أنتجت الاقتصادات الانتقالية سلعاً وخدمات تقدر قيمتها بنحو 880 مليار دولار، أو ما يعادل 40% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا الموحدة. انخفاض الإنتاج أتى بسبب التخلّي عن سياسات الاقتصاد الموجّه، وتحرير السوق لجهة الاستيراد، وهو ما تزامن مع ارتفاع الأكلاف تحت وقع معدلات التضخم الكبيرة. إذ أدّى ذلك إلى إضعاف الإنتاج المحلّي أمام السلع المستوردة في وقت بدأت سياسة تحرير الأسعار وإلغاء الدعم، تطغى على النشاط الكلّي. سياسة الدعم، هي السياسة الوحيدة التي تستطيع أن تخفّض أسعار السلع المستوردة رغم أنها مكلفة على الدول التي لا تملك موارد كبيرة. لذا، من المنطقي أن تنتج مخاطر على الاقتصاد السوري من سياسة التحرير، وهو ما يرتقب أن تلاحظه الأسر السورية بشكل مباشر عبر ارتفاع كلفة الحياة اليومية التي تعرّضت لضغوطات الحرب على مدى أكثر من عقد سجّل فيها ارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة السورية 600 ضعف.
الأجور مهددة بقيمها الحقيقية
تعاني الأجور في سوريا منذ بداية عقوبات قيصر وتدهور قيمة العملة في السوق، إذ إن التوظيف في سوريا يعتمد بشكل أساسي على القطاع العام الذي يشغل حيّزاً واسعاً في بنية العمل. ومن الطبيعي أن تختلف الأجور بعد تغيّر النموذج الاقتصادي برمّته. لكن المعيار الحقيقي هو القيمة الحقيقية للأجور، أي بعد تحييد آثار التضخّم من المعادلة. ورغم تسرّب معطيات تفيد بأن الحكومة الانتقالية في سوريا ستقوم برفع الأجور بنسبة 400%، إلا أن هذه الزيادة تعدّ اسمية، وبالتالي يصبح السؤال «كيف ستتحرّك الأسعار في السوق؟» لتحديد القيمة الفعلية للأجور.
في الواقع، تطرّق ميلانوفيتش إلى مسألة الأجور الحقيقية في بلدان الاتحاد السوفياتي السابقة، ويقول إنها انخفضت بنسبة تراوح بين 40% و60% بعد انهيار الاتحاد بالتوازي مع ارتفاع في معدلات البطالة إلى ما بين 12% و15%. إذ انعكس التضخّم المفرط الذي عاشته هذه الدول على القيمة الحقيقية للأجور، ما أدّى إلى انخفاضها بشكل كبير. كما إنه بسبب التغيّر الهيكلي في تلك الاقتصادات ونتائجه في ارتفاع معدلات البطالة لم يؤدِ إلى خلق سريع لنموذج الأعمال في القطاعات النظامية، مثل قطاعات الصناعات الثقيلة التي كانت مملوكة من القطاع العام وجرى تحريرها. وقد تكون هذه إحدى المشكلات التي يخاطر الاقتصاد السوري بمواجهتها، علماً بأنّ هناك قطاعاً خاصاً واسعاً يعمل في سوريا، ما قد يُسهّل إيجاد وظائف جديدة بعد الانتقال إلى اقتصاد السوق، لكن ترك الأمر رهناً بالقطاع الخاص ينطوي على مخاطر التركّز والبحث عن الربحية بمعزل عن الحاجات الفعلية للمجتمع.
اتساع رقعة الفقر
كل ما سبق، يصب في نتيجة واحدة: توسّع الطبقة الفقيرة. إذ إن انخفاض المداخيل الحقيقية، وارتفاع الأسعار، وزيادة حجم البطالة، يعني أن هناك أسراً كثيرة ستصبح تحت خط الفقر، وهذا بسبب ضغط الانتقال بين النموذجين الاقتصاديين. أما الخروج من تحت خط الفقر، فلا يحتاج فقط إلى التنمية الاقتصادية، بل يتطلب أيضاً برامج خاصة لا يبدو من التجارب الحالية المتعلقة بمكافحة الفقر لدى الاقتصادات المفتوحة، أنها تنجح في مهمتها، بل يظهر أن هوّة اللامساواة تأخذ في التوسّع عالمياً. ومثال الدول السوفياتية السابقة واضح، إذ يقول ميلانوفيتش إن معدلات الفقر ازدادت بشكل كبير في تلك الدول. ففي حين كان مقدراً في عام 1989 أن عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 4 دولارات في اليوم بلغ 14 مليون شخص (من بين عدد سكان يبلغ نحو 360 مليون نسمة)، زاد عدد الفقراء في منتصف التسعينيات إلى أكثر من 140 مليون شخص. أي إن حجم الكتلة التي تعيش تحت خط الفقر تضاعفت 10 مرات خلال سنوات معدودة.
هكذا، يبدو أن المرحلة الانتقالية لسوريا، لن تكون سهلة اقتصادياً، بل إن المسار مليء بالمشكلات والصعوبات والتحديات. وهي مشكلات ستلمسها فئات الشعب الأكثر فقراً، علماً بأن حجم هذه الفئات سيتوسع خلال السنوات القادمة. وهذا الأمر ليس خاصاً بالنموذج السوري، بل هو مسار طبيعي لأي اقتصاد يتلقى صدمة التغيير بهذا الشكل. لن تكون صدمة مشابهة لما حصل في دول الاتحاد السوفياتي، لأن النظام السابق كان قد خطا خطوات عميقة نسبياً نحو الليبرالية ببطء، ولعلها كانت إحدى الثغرات التي فتحت الباب لما حدث في 2011، والإكمال بهذا المسار حتى بعد الحرب سهّل عملية التفتيت التي شهدها النظام في الأسابيع الأخيرة.