انقسام جمعيّة المصارف مستمرّ: اجتماع بروتوكولي فارغ

بعد أكثر من أسبوع من الحديث عن انقسام المصارف اللبنانيّة، إثر انفراد خمسة منها باجتماع مع بعثة صندوق النقد، قرّر مجلس إدارة جمعيّة المصارف عقد اجتماع بروتوكولي، للتعقيب والتأكيد على وحدة الجمعيّة بشكل غير مباشر.

البيان الذي صدر، اقتصر على جملتين في ثلاث أسطر ونصف: الأولى أفادت بعقد مجلس إدارة الجمعيّة اجتماعًا للتداول بمواضيع “مختلفة”، والثانية شدّدت على ضرورة مقاربة أي خطّة لإعادة هيكلة المصارف وفقًا لأسس “عمليّة وعمليّة”. باختصار، لم يملك مجلس إدارة الجمعيّة ما يقوله للبنانيين والمودعين، أكثر من هذه الكلمات الإنشائيّة التي لا تحمل أي مضمون أو حقيقة أو توضيح.

الجمعيّة باتت رسميًا عاجزة، ككيان يفترض أن يمثّل مصالح القطاع ويلعب دور “اللوبي”. وداخل الجمعيّة نفسها، بات هناك من يتنبّأ أن تفقد الجمعيّة دورها ومكانتها، ما لم يحصل أي تغيير جذري في انتخاباتها المقبلة.

تجويف الجمعيّة العاجزة
صدور بيان هزيل كهذا، يعني أشياء كثيرة. فنحن نتحدّث عن بيانٍ تلى زيارة بعثة صندوق النقد الدولي، مع كل ما رافق الزيارة من صخب وأنباء ترتبط بمكانة ووحدة الجمعيّة نفسها. ليس تفصيلًا أن تجتمع بعثة الصندوق مع تكتّل مصرفي يمثّل أغلب موجودات القطاع الفعليّة، من خارج عباءة “اللوبي” الرسمي، أي جمعيّة المصارف. وليس تفصيلًا أن يتم تداول مقاربات جديدة وواقعيّة، أعدتها مجموعة من أصحاب المصارف، الذين باتوا ينسّقون ويضغطون ويجتمعون خارج جمعيّتهم. هناك طبعًا من قلّل من شأن هذا التطوّر، حرصًا على قوّة الجمعيّة كمجموعة ضغط داخل الحياة السياسيّة اللبنانيّة. لكنّ مَن راقب سخط صقور الجمعيّة من هذه التطوّرات، لا يمكن أن يخطئ التقدير أو أن يخفّف من دلالات هذه الأحداث.

بيان مجلس الإدارة، لم يحمل كلمة تدلّ على موقف الجمعيّة من زيارة البعثة، أو من مصير الاتفاق اللبناني على مستوى الموظفين مع الصندوق. وهذا البيان، لم يقارب مسألة إعادة الهيكلة بأي كلمة تحدّد موقع الجمعيّة من جميع الطروحات التي تم وضعها على الطاولة، بما فيها تلك التي يتم إعدادها اليوم، لإعادة “تقويم” الخطّة الحكوميّة ومشروعها لإعادة الهيكلة. ولم يحمل البيان طبعًا أي موقف من اجتماع مجموعة المصارف الكبيرة مع البعثة، في مقابل تحييد الجمعيّة عن النقاشات الجديّة مع صندوق النقد الدولي.

البيان عمليًا فارغ، تمامًا كالاجتماع البروتوكولي نفسه، الذي دفع بعض المتابعين لوصفه باجتماع “التكاذب”. على طاولة الياقات البيضاء، وقف مصرفيون يؤكّدون على أنّ الجمعيّة ستبقى مرجعيتهم، رغم غدائهم مع بعثة الصندوق. وهزّ آخرون رؤوسهم بابتسامات صفراء بدبلوماسيّة. غير أنّ الجميع كان يعلم أن ما انكسر قد انكسر، والمصارف التي تنسّق خارج الجمعيّة، باتت تعمل بوصفها لوبياً رديفاً للوبي الرسمي. وحين يجد الجد، ستكون هذه المصارف أكثر قدرة على الفعل، لكونها تستأثر بالكتلة الأضخم من الدولارات الطازجة الموجودة داخل القطاع.

مسار تاريخي من الانقسام
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها هذا النوع من الانقسام داخل القطاع المصرفي، بل وبخصوص دور الجمعيّة نفسه خلال الأزمة. أولى مظاهر هذا الانقسام، برز في بدايات الأزمة، عندما ناشد بعض المصرفيين “المتعقّلين” رئيس الجمهوريّة يومها ميشال عون، لإقرار قانون لضبط التحويلات، أو ما يُعرف بالكابيتال كونترول.

يومها، كان الموقف الرسمي لجمعيّة المصارف يشيد برفض الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة لفكرة الكابيتال كونترول. وهو ما مهّد لكل أشكال عمليّات تهريب الودائع، التي حصلت في أولى أشهر الأزمة. التباين بين الموقفين، حصل على أساس فرز مشابه للفرز الحاصل اليوم، وهو ما يؤشّر إلى وجود تباينات في كيفيّة مقاربة الأزمة نفسها، وفي رؤية المصرفيين لمستقبل القطاع.

لاحقًا، برز هذا الفرز مجددًا عند فتح الملفات المتعلّقة بتهريب الأموال، التي حصلت عليها المصارف بموجب قروض خاصّة من مصرف لبنان، بعد 17 تشرين الأوّل 2019. مرّة أخرى، قررت بعض المصارف التجاوب مع التحقيقات التي كانت تجريها النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان، فيما قرّرت مصارف أخرى التذرّع بالسريّة المصرفيّة لرفض تسليم الداتا المصرفيّة. ومع الوقت، تبيّن أنّ هذه الخلافات مرتبطة بتورّط بعض المصارف فعلًا في عمليّات تهريب أموال للخارج، فيما كانت مصارف أخرى قد اكتفت باستعمال قروض مصرف لبنان لتسديد قروض داخليّة.

هكذا، كان من الممكن رصد هذا الفرز على امتداد سنوات الأزمة. وسمة هذا الفرز الدائمة هي تمسّك الجمعيّة بالمواقف الأكثر إشكاليّة، والأكثر جذريّة في وجه الإصلاحات المطلوبة، مقابل اتخاذ مصارف أخرى مواقف أكثر اتزانًا وأقل ارتباطًا بالمصالح السياسيّة. لاحقًا، انفجرت الأمور حين صدرت دراسة موقّعة من قبل استشاري متعاقد مع الجمعيّة نفسها، لطرح حلول متطرّفة وغير منطقيّة للأزمة المصرفيّة، وبما يتعارض مع المقاربات التي يتبنّاها صندوق النقد، من دون علم أو موافقة أغلب أعضاء الجمعيّة. وهذا ما أثار زوبعة من الخلافات الحادّة داخل أروقة الجمعيّة.

غير أن الجديد اليوم، والمختلف عن جميع خلافات الحقبة السابقة، هو تشكيل مجموعة مصرفيّة رديفة تضع تصوّراتها الخاصّة وطروحاتها لمعالجة الأزمة، وتفتح قنوات اتصالها المنفصلة مع لجان العمل الحكوميّة وصندوق النقد وبعض الكتل النيابيّة. أي بصورة أوضح: بات هناك لوبي مصرفي آخر، غير اللوبي الرسمي المتمثّل بجمعيّة المصارف.

أفكار جديدة في الخطّة الحكوميّة
اندفاعة بعض المصارف للحوار من خارج مظلّة الجمعيّة، تلاقيها اليوم مجموعة جديدة من الطروحات التي يتم العمل عليها في إطار الخطّة الحكوميّة. ومن هذه الطروحات مثلًا، الرهان على فكرة السندات الصفريّة، أي تحويل بعض الودائع الكبيرة –التي تتخطّى السقف المضمون- إلى استثمارات مربوطة بسندات متداولة في الأسواق العالميّة.

ويبدو أن صندوق النقد بات أكثر انفتاحًا على هذه الفكرة، ضمن شروط معيّنة، بينما تشير بعض المصادر إلى أنّ مصرف لبنان نفسه يجد في الفكرة مدخلًا لمعالجة جزء من فجوة الخسائر المتراكمة في القطاع. تداول هذا النوع من الطروحات، التي تتقبّلها المصارف الأقل تطرّفًا، يفسّر اندفاعة هذه الشريحة من المصارف لمناقشة “حلول وسط” أكثر عقلانيّة من تلك التي تتبنّاها رسميًا جمعيّة المصارف. هذه الشريحة من المصرفيين، باتت تدرك أن جنون الجمعيّة سيقود القطاع بأسره إلى الهاوية، إذا تم تطبيع وضعيّة “المصارف الزومبي” على المدى الطويل.

وهذا الواقع، لا يخدم سوى المصرفيين غير القادرين، أو غير الراغبين، بإعادة رسملة مصرفهم وضمان الحد الأدنى من كل وديعة. هؤلاء، هم المسيطرون على جمعيّة المصارف اليوم، بحكم الكثرة العدديّة، وإن كانت مصارفهم الأصغر حجمًا، ولا تمثّل سوى نسبة صغيرة من موجودات القطاع ودولاراته الطازجة.

في النتيجة، يبقى الاستحقاق الأهم اليوم انتخابات الجمعيّة المقبلة، التي ستحدّد مصير وتوجّهات ودور الجمعيّة نفسها. الأكيد هو أنّ الجمعيّة ستتجه في المستقبل نحو مزيد من الانقسام والتشرذم، وغياب الدور، إذا أفضت الانتخابات إلى تجديد القيادة الحاليّة، ذات التوجّهات الأكثر رفضًا لأي مسار يؤدّي إلى إعادة هيكلة القطاع بشكل جدّي. في المقابل، بات التطوّر الوحيد الذي يمكن أن يعيد للجمعيّة دورها، هو إنتاج قيادة جديدة ذات رؤى أكثر واقعيّة، وأكثر استعدادًا لدخول مسار إعادة الهيكلة. هذا المسار، هو الذي يفترض أن يؤسّس لإعادة تفعيل القطاع المصرفي، ومعالجة فجواته، بعد فرز المصارف القادرة على الاستمرار ورد الحد الأدنى من الودائع، عن تلك التي ترفض هذا النوع من الحلول الواقعيّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالتحويلات بـ”الشنط”: لبنان يستقبل أكثر من 20 مليار دولار!
المقالة القادمةماذا دار بين وفد” تاسك فورس” المصارف وصندوق النقد الدولي ؟