«لا يمكن أن تعرف حقاً إلى أين أنت متجه، إلا بعد أن تعرف أين كنت ومن أين أتيت، المقولة التي تعود الى الشاعرة والمناضلة الأميركية مايا انجيلو يمكن الاستعانة بها، لا بل اسقاطها على الحالة اللبنانية والأزمة المالية والمصرفية التي تتخبط فيها البلاد، بغية تفكيك عدد من السرديات التي تحكم النقاش العام حول الحلول للخروج من الازمة. إذا كان اجتماع قصر الصنوبر في الواحد من أيلول 1920 تاريخاً مفصلياً رُسمت فيه معالم الكيان اللبناني، فإن تاريخاً أقل شهرة وتداولاً رسم معالم في الكيان المصرفي المالي الى يومنا هذا. انه الرابع من كانون الثاني عام 1967 عندما اعلنت محكمة بداية بيروت التجارية افلاس مصرف انترا بعد توقفه عن الدفع.
شكل انهيار المصرف زلزالاً مالياً كاد أن يطيح كامل القطاع المصرفي اللبناني، مهدداً اقتصاد البلاد برمته. ووصلت ارتداداته الى مرابع خليجية وكبريات الشركات والمصارف الأميركية. كيف لمصرف وعلى الرغم من مرور حوال نصف قرن على انهياره ان يبقى مؤثراً في النقاش المالي الاقتصادي حتى اليوم، تزامناً مع أخطر انهيار مالي اقتصادي شهده لبنان منذ تأسيسه؟
تمكن المصرفي ورجل الاعمال (المثير للجدل والمتهم بعدة قضايا) روجيه تمرز من فرض مقاربته لكيفية معالجة انهيار مصرف انترا مفوضاً من الشركة الاميركية Kidder, Peabody. إستندت مقاربة المعالجة بإيجاز على انشاء شركة انترا الاستثمارية. شركة تتملك كافة الأصول التي كان يملكها مصرف انترا (من عقارات، وشركات كطيران الشرق الاوسط وستوديو بعلبك وكازينو لبنان…)، ونظراً الى تكفل الدولة اللبنانية عبر مصرف لبنان بدفع الجزء الأكبر من أموال صغار ومتوسطي المودعين، تملكت الدولة اللبنانية والمصرف المركزي ما نسبته 45 في المئة من أسهم الشركة، مما خول الدولة والمصرف المركزي نتيجة تملكهما الجزء الاكبر من الأسهم من تحديد آلية تعيين رئيس مجلس ادارة الشركة واعضائها، فيما تحول كبار المودعين في مصرف انترا الى مساهمين في الشركة كل بحسب حجم وديعته.
إستندت المقاربة حينذاك على أن تقوم الشركة المنشأة على تسديد ودائع كبار المساهمين من الأرباح التي ستنتج عن ادارتها الاصول التي تم وضع اليد عليها بعد حل مصرف انترا، وعليه شهدت البلاد آنذاك تشكل أول تجربة للشراكة الاستثمارية بين القطاع العام والخاص.
مرهج: نحن أمام سرقة العصر اذا تكرر النموذج… إنترا أداة «طيعة» بيد السياسيين
في مقاله البحثي «شركة انترا الاستثمارية… أكثر أسرار الدولة كتماناً» المنشور في موقع “the public source”، لم يدرك الكاتب والباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية كريم مرهج أن الفضول الذي دفعه الى التحقيق في آلية وطريقة ادارة شركة انترا الاستثمارية بعد حوالى نصف قرن من الزمن، سيوصله الى نقطة ترابط مع اقتراح جديد يقدم اليوم من قبل جمعية المصارف واطراف سياسية واقتصادية لمعالجة الفجوة المالية، تحت مسمى الصندوق السيادي أو صندوق خاص لادارة أصول الدولة.
يقول مرهج أنه «كلما تعمقت في البحث في آلية ادارة شركة انترا الاستثمارية والغموض المحيط بميزانيتها وأرباحها، تأكد لي حجم المخاطر المحيطة بطرح الصندوق السيادي». يفند مرهج في بحثه كيف تمنعت الشركة وعلى مدى عقود من الزمن عن الكشف بشكل واضح عن حجم الأصول التي تملكها، وحتى الأرباح التي تراكمها أو الخسائر التي تتكبدها، الا في ما ندر من خلال أرقام غير مفصلة تنشر في الجريدة الرسمية أو من خلال بيانات صحفية غير موقعة تنشر في صحف أو مجلات اقتصادية.
يشرح مرهج أن الشركة تمنعت حتى عن تطبيق قانون حق الوصول للمعلومات، والكشف عن هوية المستثمرين والمساهمين في الشركة. المقالة البحثية تكشف كيف تحولت شركة أنشئت بهدف خدمة المساهمين والدولة والمصرف المركزي الى شركة «طيعة» في يد الطبقة السياسية التي احكمت السيطرة عليها ووزعت مغانمها. «نحن لا نتحدث عن جهة سياسية واحدة سيطرت على الشركة، فالشركة نفسها خضعت لمعارك وراثة بحسب المرحلة السياسية ومن كان الاكثر نفوذاً فيها. فالشركة التي تمكن رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل من تسمية روجيه تمرز رئيساً لمجلس ادارتها، بات لرئيس المجلس النيابي نبيه بري سطوة عليها عبر تسمية رئيس مجلس اداراتها منذ العام 1993.
بالنسبة لمرهج، طرح الصندوق الوارد في خطة جمعية المصارف والذي بات لها مبشروها من الطبقة السياسية بمعظم رموزها، غير واضح المعالم بل هو مجرد فكرة لم تخضع الى أي شرح تفصيلي علمي وتقني. وعليه يجزم مرهج ان هذه الفكرة، وهذا الطرح لا يمكن إلا مطابقتهما مع النموذج المتوافر أصلاً وهو «شركة انترا الاستثمارية». الفرق الوحيد يقول مرهج هو ان «الصندوق المقترح وحجم الأصول التي تمتلكها الدولة هو مئة ضعف مقارنة بالأصول الذي تملكتها انترا آنذاك. وعليه، تجربة انترا الكارثية لادارة الأصول لا تدفعنا إلا إلى التنبه لخلاصة واحدة، وهي أن هذا النموذج ستكون له نتائج كارثية لا تقل عن كونه سرقة العصر»، برأيه.
صفي الدين: نحن أمام بنوك مفلسة تريد وضع يدها على أصول الدولة أو ايراداتها
الاستاذ الجامعي والباحث هشام صفي الدين (مؤلف كتاب دولة المصارف) يؤكد ان استعادة مرحلة انترا في ظل الأزمة الحالية ضرورية، ليس لتشابه الظروف بل للمقارنة بين كيفية تعامل الدولة والسلطة آنذاك مع الازمة والآلية التي اعتمدت أو قد تعتمد اليوم. يشير صفي الدين الى أن اللافت في اقتراح «صندوق ادارة الاصول»، بالمقارنة مع ما جرى في حالة مصرف انترا، هو انه آنذاك، الدولة اللبنانية هي من تملكت أصول مصرف تعثر عن الدفع، فيما تقوم فلسفة الصندوق اليوم على أن تضع المصارف المفلسة يدها على أصول ليست ملكها. «عند انهيار مصرف انترا قامت الدولة بنوع من تأميم اصول المصرف عبر الـbail in وهو عكس ما يطرح اليوم، أي ان تحاول المصارف تملك أو ادارة ما هو أصول عامة». يعتبر صفي الدين ان تجربة ادارة شركة انترا الاستثمارية تعطي لمحة مسبقة عما قد يجري في حال طبق حل الصندوق المشترك لادارة اصول الدولة. «تثبت تجربة انترا ان السلطة استفادت من الشركة في نجاحها وفي وفشلها. فالخسائر التي كانت الشركة تراكمها هي خسائر نتيجة السرقات التي كانت تجري في اطار سوء ادارة متعمد، وتجربة روجيه تمرز في ادارة الشركة خير دليل على ذلك حينما كانت الشركة تدر ارباحاً توزع كمغانم».
بعيداً من كون تجربة شركة انترا الاستثمارية نموذجاً صارخاً لخطورة طرح ادارة أو خصخصة ايرادات أصول الدولة، يشير صفي الدين الى ضرورة المقارنة بين كيف تعاملت الدولة مع انهيار مصرف انترا آنذاك، وكيف تتعامل الدولة اليوم مع انهيار القطاع المصرفي. لا ينفي صفي الدين وجود فساد وتشابك مالي سياسي إبان ازمة انترا، لا بل تآمر اقطاب ماليون وسياسيون للإجهاز على المصرف، الا أن حداً أدنى من المسؤولية جنب البلاد نتائج كارثية. «بداية أخذت الدولة على عاتقها آنذاك تأمين الودائع الصغيرة والمتوسطة. قامت بذلك عبر امتلاك ممتلكات وأصول المصرف وتعيين أعضاء مجلس ادارته. صحيح أنها تحملت الدين لكنها استملكت أصولاً في المقابل». انطلاقاً من هذه المعالجة التي لجأت إليها الدولة آنذاك، وجب السؤال عن سبب تمنع الدولة القيام بالمثل اليوم؟ يجيب صفي الدين: «أولاً لم يرفع في وجه أي من المصارف المتعثرة سيف الافلاس الذي طبق آنذاك على مصرف انترا ورفع بوجه عدد من المصارف المتعثرة لاحقاً، والتي اجبرت على الدمج أو التصفية. ثانياً في حالة انترا، جرى تدقيق مفصل بأصول المصرف وممتلكاته من قبل شركة Price Cooper Waterhouse، فيما اليوم لم يجر حتى اللحظة تدقيق حقيقي وشفاف. ولا نعلم حقاً ماذا تمتلك هذه المصارف من أصول وممتلكات وتحديداً خارج لبنان».
سابا: أصول الدولة لكل اللبنانيين وليست للمودعين… والسؤال: أين القضاء عن انصاف أصحاب الحقوق؟
وزير المالية السابق الياس سابا الذي واكب وعاصر مرحلة سقوط مصرف انترا، ينطلق في مقاربة ادارة شركة انترا واقتراح الصندوق المقترح بسؤال بسيط: «بأي حق تصادر أملاك اللبنانيين لاعطائها لفريق اسمه «المودعين» صغاراً كانوا أم كباراً؟ أملاك الدولة وموجوداتها هي ملك كل اللبنانيين».
يؤكد سابا أنه في تلك الفترة كل ما حصل هو أن القانون طبق على مصرف أعلن افلاسه، وبحسب القانون تمت ملاحقة أموال المصرف والأموال الخاصة للمساهمين وأعضاء مجلس الادارة. «اليوم كل انواع الضغوط تمارس على القضاء كي لا يتحرك. ولذلك نرى ان القرارات الوحيدة التي تنصف المودعين تصدر من قضاة متفرقين وليس من رأس هرم السلطة القضائية».
يشير سابا الى ان العلاج الذي طبق بعد انهيار مصرف انترا وانشاء شركة انترا الاستثمارية كان أفضل الممكن بالظروف التي وجدت يومها. «لكن انترا يومها شيء وانترا اليوم شيء آخر. إذ يكفي أن نسأل سؤالا واحداً للمقارنة بين هذا النموذج من المعالجة آنذاك وامكانية اعادة انتاجه اليوم: الادارة اللبنانية من ستينيات القرن الماضي الى اليوم، تحسنت أم صارت أسوأ بكثير؟
من مؤامرة إلى أخرى؟
على مدى عامين، تشبث يوسف بيدس، وحتى لفظ انفاسه الاخيرة في الثامن والعشرين من تشرين الثاني /نوفمبر 1968 في لوسرن السويسرية، بأن مؤامرة حيكت ضده وضد مصرفه. بعد نصف قرن من الزمن، أياً كانت المؤامرة إن وجدت، فهي لا تقارن بمؤامرة تحاك ضد شعب بأكمله اليوم.