بخلاف السنوات الماضية، لم تتمكن الكثير من النساء في جنوب لبنان هذا العام من تحضير المؤونة الغذائية المخصّصة للشتاء. الظروف الأمنية والنزوح، شكلتا معضلة حقيقية أمام فئة كبيرة من العائلات التي تعتمد بشكل أساسي على صناعة الطعام يدوياً.
المشكلة لا تتعلق فقط بفقدان مصدر رزق العائلات أو المزارعين والعاملين في مجال المؤونة الشتوية، بل أيضاً، ستظهر الإنعكاسات على أسعار بعض أصناف المواد الغذائية في الأسواق اللبنانية، في وقت يتّجه فيه الكثير من اللبنانيين إلى خيار المؤن لسد الإحتياجات الغذائية هرباً من ارتفاع الأسعار بسبب الأزمة الاقتصادية. وبالتالي فإن أزمة جديدة تدق ناقوس الخطر، من شأنها أن تطال لقمة عيش فئات مختلفة من اللبنانيين خلال الموسم الشتوي المقبل.
خسارة الأرض والإنتاج
لا تخفي منى شاهين انزعاجها وحزنها بعدما فقدت نحو “دونمين” أي نحو 2000 متر من الأراضي المزروعة بالزيتون هذا العام، نتيجة القصف الإسرائيلي على بلدة الخيام ومحيطها. تعتمد شاهين على تجارة المؤن الشتوية لإعالة عائلتها، وتحديداً تجارة الزيتون والزيت. لكنها هذا العام، لم تتمكن من العمل، بعدما اضطرت للهروب إلى مناطق أكثر أمناً.
تقول من إحدى مدارس الإيواء “منذ سنوات، بدأت العمل في تأمين المؤونة الشتوية، من خلال بيع الزيتون والزيت، بالإضافة إلى السلع الأخرى، كالبرغل، العدس، والمربيات”، وبحسب تعبيرها، يقصدها الكثير من الناس بداية فصل الصيف، لحجز مؤونتهم، وهو ما يساعدها في تأمين جزء من المصاريف اليومية لأبنائها.
هذا العام، خسرت كل شيء، تقولها بحسرة وتوتر. فالخسائر بحسب وصفها، لا تتعلق فقط بتوقفها عن العمل، بل بعدم إمكانية استئنافه على المدى القصير، لأن الحرائق نتيجة القصف الإسرائيلي طالت الأراضي الزراعية في منطقة الخيام، وبالتالي تحتاج إلى سنوات لإصلاح الأراضي وإعادة زراعتها مجدداً.
وقد تسبب القصف الإسرائيلي لمناطق في جنوب لبنان بأضرار واسعة، حيث بلغت مساحة الأراضي المتضررة في القرى الحدودية نحو 1700 هكتار أي نحو 17000000 متر مربع بحسب آخر الأرقام الصادرة عن وزارة البيئة.
وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة، تضررت 40 ألف شجرة زيتون، وهو ما تسبب في خسائر عميقة وبالغة بالنسبة لفئة كبيرة من المزارعين اللبنانيين.
لا يوجد إحصاءات رسمية، توضح حجم التراجع في إنتاج الزيتون والزيت هذا العام، ولكن من غير المستبعد أن تصل قيمة التراجع لأكثر من 50 في المئة، مقارنة مع إنتاج العام الماضي. وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على الأسعار، التي بدأت تظهر فعلياً في الأسواق.
فسعر كيلوغرام الزيتون يصل إلى 8 و10 دولارات، فيما لا يوجد رقم محدد حول سعر تنكة الزيت، ولكنها قد تتخطى حاجز 150 دولاراً، فيما بلغ سعر التنكة العام الماضي نحو 100 دولار.
خسائر عديدة
على مقلب أخر من الأزمة، تشكو تيريز غانم عن تأثير انقطاع وصول المؤونة الشتوية من مناطق مختلفة في الجنوب إلى مركزها التجاري الكائن في منطقة فرن الشباك. تشير إلى أنها تواجه تحديات عديدة للحفاظ على مصدر رزقها. فمن جهة، لم تتمكن من الحصول على الكميات المطلوبة لبيعها، بسبب عدم توفرها، ومن جهة ثانية، تخشى من ارتفاع الأسعار وتكدس البضائع.
تشتري غانم سنوياً، نحو 200 كيلوغرام من البرغل على سبيل المثال، ونحو 50 كيلوغراماً من الزعتر، بالإضافة إلى الكشك وغيرها من المواد الغذائية التقليدية والأساسية على مائدة اللبناني، إلا أن هذا العام لم تحصل على نصف هذه الكميات، وبأسعار مرتفعة. تقول “الأسعار ارتفعت بأكثر من الضعف، وأخشى ان لا أتمكن من تصريف البضائع نتيجة الأسعار”.
وفي جولة لـ “المدن” داخل المحال التجارية المخصصة لييع المؤونة الشتوية، يتبين ارتفاع أسعارها مقارنة بالعام الماضي، وقد وصل سعر الكيلوغرام من البرغل إلى 15 دولاراً، مقابل 10 دولارات العام الماضي، كذلك الأمر بالنسبة إلى الزعتر الذي ناهز سعره 25 دولاراً، مقابل 20 دولاراً العام الماضي، أما الكشك فقد ارتفع نحو 10 دولارات من 20 إلى 30 دولاراً، حتى أن أسعار الألبان والأجبان (المكرزلة) ارتفع سعرها بنحو 5 دولارات من 10 دولارات إلى 15 دولاراً.
ارتفاع الأسعار لم يكن مقتصراً فقط على هذه السلع، حتى أن سعر الخضروات والحبوب التي يتم شرائها بهدف تخزينها مثل الفاصولياء، والملوخية باتت صعبة المنال. يتراوح سعر الكيلوغرام من الفاصولياء ما بين 10 إلى 15 دولاراً، والملوخية من 40 إلى 50 دولاراً.
موسم “المكدوس”
تتحسر أم علي من عدم إمكانية صناعة “المكدوس” وبيعه هذا العام وتشكو في حديث لـ”المدن” من ظروف الحرب والنزوح، والتأثيرات السلبية. تعمل أم علي لصالح معمل صغير في منطقة النبطية لبيع المنتجات اليدوية، لكن المعمل أقفل أبوابه بداية الصيف، مع اشتداد الضربات الإسرائيلية، وعدم وجود المواد الأولية اللازمة.
تحاول جاهدة العمل لحسابها، لكنها وبحسب تعبيرها، لا تملك الأموال الكافية لشراء المواد الأساسية، التي شهدت أيضاً ارتفاعاً لافتاً. في العام الماضي، لم يكن يتخطى سعر المكدوس (الكيلوغرام) نحو 15 دولاراً، لكن هذا العام ووفق الحسابات، تقف التكلفة الأساسية لتحضير المكدوس عند حدود 20 دولارأ، وبالتالي حتى تتمكن من تحقيق الأرباح، لا بد من بيعه بأكثر من 30 دولاراً.
على الرغم من طابعها التقليدي والتراثي، يشكل تحضير المؤونة الشتوية مصدر رزق للكثير من العائلات اللبنانية في المناطق الريفية، لكن آلة الحرب، والدمار، والنزوح، بالإضافة إلى استخدام المواد الكيميائية مثل الفوسفور، سيجعلها عرضة للإندثار تدريجياً، وهو ما له انعكاسات اقتصادية وخيمة إن لجهة تأمين لقمة عيش فئة كبيرة من اللبنانيين، أو لجهة تغيير عادات الاستهلاك.