يشكّل النقل المشترك في لبنان مرآة للعديد من الأزمات التي تواجه البنية التحتية في البلاد. فمنذ عقود، كانت تتعثّر محاولات النهوض بهذا القطاع، وسط تحديات مالية وإدارية، لتبقى باصات الدولة حبيسة الإهمال وقلة الصيانة، على الرغم من كونها وسيلة حيوية لتخفيف الأعباء الاقتصادية على المواطنين، الذين أثقلت كاهلهم تكاليف النقل الخاص.
فما هي الأسباب الحقيقية وراء فشل منظومة النقل العام في لبنان؟ ولماذا لم تنجح المبادرات المتتالية، رغم الدعم الدولي والهبات التي قُدّمت لإعادة إحيائها؟
تحرير الهبة الفرنسية يسّر حياة المواطنين!
في الأعوام الماضية، سعت فرنسا لدعم قطاع النقل المشترك في لبنان، عبر تقديم هبة تتألف من 100 مركبة مستعملة، واعتبرت كإجراء لتخفيف أزمة المواصلات التي تفاقمت مع ارتفاع أسعار المحروقات وتدهور العملة الوطنية. ومع ذلك، بقيت هذه الحافلات متوقفة لفترة طويلة ، بسبب غياب التخطيط السليم وعدم توفير الموارد اللازمة لتشغيلها بشكل منتظم. ورغم الجهود الأخيرة التي أطلقها وزير الأشغال والنقل علي حمية، والتي تضمنت تسيير هذه المركبات على خطوط رئيسية، فإن الواقع الميداني يعكس تحديات ضخمة تحول دون استدامة هذه الخطط.
في المقابل، أزمة النقل المشترك ليست وليدة اليوم، اذ يُظهر التاريخ ان القطاع عانى من تداخل المصالح، وضعف الرقابة، وشح التمويل، مما أدى إلى تعطيل مشاريع تطويرية كان يمكن أن تغيّر وجهه.
ومع تصاعد أزمة النقل وارتفاع تسعيرة المواصلات الخاصة بشكل غير مسبوق، يبقى التساؤل: هل يمكن لباصات الدولة أن تصبح حلاً حقيقياً؟
الإجابة تبقى مرتبطة بإرادة سياسية حقيقية لمعالجة جذور المعضلة، بعيدا عن الحلول المؤقتة التي أثبتت عدم جدواها. فبدون رؤية استراتيجية طويلة الأمد، سيبقى قطاع النقل المشترك في لبنان عالقا بين طموحات الإصلاح وواقع الإهمال.
“مافيا عن جد”!
بعد الاعتداءات المتكررة على باصات النقل المشترك التابعة للدولة، قامت “الديار” بجولة ميدانية لتوثيق ما يحدث على الأرض، فشملت الجولة الباصات العائدة للدولة، وأيضا تلك التي يملكها أفراد يسعون إلى فرض سيطرتهم على خطوط معينة مثل باص رقم (2) و (5)
و(24).
وخلال الجولة، لاحظت “الديار” إحدى الحالات الصادمة، حيث كان سائق أحد الباصات الخاصة يحاول منع سائق باص تابع للدولة من التوقف في محطة تجمع فيها مجموعة من الناس بانتظار وسيلة نقل تقلهم إلى وجهاتهم.
بدا المشغّل الخاص مصمما على إخراج قائد مركبة الدولة من المحطة، مبررا ذلك بأنها “منطقته”، في مؤشر واضح على محاولات احتكار الخطوط وإقصاء أي منافسة، سواء من الباصات العامة أو حتى من سائقين فرديين يحاولون العمل على هذه الخطوط.
تأتي هذه الوقائع في ظل تزايد الاعتداءات على باصات النقل المشترك، وآخرها وقع على سائقي باصات الدولة على خط العدلية. يبدو أن هذه المشادات الكلامية ليست عشوائية، بل تدخل ضمن مخطط مدروس من قبل مافيات النقل، التي تسيطر على الخطوط الحيوية في البلاد، مستغلة غياب الرقابة الفعلية من الجهات المعنية.
وعن هذه الحادثة، كتب وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حمية، على حسابه عبر منصة “إكس”: “تعرض سائقو خط العدلية – مجمع الحدت الجامعي (الجامعة اللبنانية)، الذي افتتح يوم أول أمس لحملة من الشتائم مع تهديد بوقفهم عن العمل على هذا الخط اعتبارا من يوم غد.
لذلك، فإن الأجهزة الأمنية مدعوة للتحرك الفوري لحماية السائقين والحافلات العائدة للدولة من جهة، وللحفاظ على حق المواطنين في الحصول على الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، بالتوازي مع خدمات القطاع الخاص”.
تجدر الإشارة الى ان رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل النائب سجيع عطية، اكد قبل اشهر أهمية تحميل المسؤولية للأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية، داعيا إلى كسر سيطرة هذه المجموعات التي تعرقل تشغيل النقل العام وتزيد من معاناة المواطنين، وذلك في اعقاب الاعتداء الذي استهدف باصات الدولة على الدورة”.
خطة شاملة
وبالرغم من كل الحملات والهجمات المقصودة، يبدو أن قطاع النقل المشترك يشهد توجها جديدا يسعى الى إعادة إحياء دوره، بعد سنوات من الإهمال والتعثر. وفي هذا السياق، أعلن وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال، علي حمية، عبر حسابه على منصة “إكس”، عن تجهيز خطوط جديدة تربط العاصمة بيروت بمختلف المناطق، بما في ذلك الجنوب والشمال والبقاع والضاحية الجنوبية.
يأتي هذا الإعلان بعد افتتاح خط جديد يمتد من العدلية إلى الطيونة، مرورا بالجامعة اللبنانية وأوتوستراد السيد هادي نصر الله، موضحا أن هذه الخطوة تأتي ضمن خطة شاملة تهدف إلى تعزيز النقل المشترك كوسيلة نقل آمنة وميسّرة التكلفة. وشدد على أن المشروع يهدف إلى ربط كافة المناطق اللبنانية بشبكة نقل حديثة، مبررا تأخير إطلاق بعض الخطوط، بالأضرار الناتجة من العدوان “الإسرائيلي” الأخير، لكنه أكد أن العمل جارٍ لتعويض التأخير.
كما أشار إلى مشروع قانون جديد لتعزيز الشركة بين القطاعين العام والخاص، حيث ستؤدي الدولة دور المنظم الرئيسي، بينما يتولى القطاع الخاص مهام التشغيل. هذه المقاربة، بحسب الوزير، تهدف إلى ضمان استمرارية القطاع وتقديم خدمات بجودة عالية.
خطوة نوعية!
يُذكر ان الإفصاح عن الخطوط الجديدة والتوسع في النقل المشترك يتزامن مع تصريحات مدير النقل المشترك وليد ريما، لـ “الديار” حول استعداد الشركة لتشغيل 11 خطًا رئيسيًا، إلى جانب خطوط جديدة تم الإعلان عنها، وبعضها قيد الانطلاق.
ويؤكد ريما أنّ قطاع النقل المشترك، يشهد خطوة نوعية بعد فوز شركة “أحدب للمواصلات والتجارة ش.م.ل.” بالمناقصة الخاصة بتأهيل وإدارة باصات النقل المشترك. ويشمل المشروع تشغيل 11 خطًا رئيسيًا يغطّي معظم المناطق اللبنانية، حيث توجد 93 حافلة، وتم حتى الآن تشغيل خمسة خطوط ضمن نطاق بيروت، وهي: B1, B2, B3, B5، وML3، مع الإشارة إلى أن خط ML3 يصل إلى منطقة بعبدا”.
ويكشف انه تم تشغيل نصف الاسطول، وتأجيل افتتاح خطوط جديدة بسبب الحرب، مثل خط الجنوب وخلدة والضاحية. كانت هذه المسارات جاهزة للانطلاق، لكن العدوان الإسرائيلي اخر العملية. ومع ذلك، سنعاود تشغيل هذه الخطوط قريبا، ومن بينها، خط باتجاه طرابلس، وشتورا”.
ويقول: “تختلف التسعيرة بين منطقة وأخرى مثلا تبلغ تعرفة طرابلس 150 الفا، بينما تسعيرة الفانات الخاصة فتتراوح بين 200 و400 ألف، مشيرا الى ان وزارة النقل هي من حددت التكلفة، ونحن ملتزمون بها. وقد يسترد المواطن المبلغ إذا ركب في باص الدولة ومرر بطاقته لتسجيل الرحلة. وفي حال كان قد صعد من محطة على أساس أنه متجه إلى طرابلس بتعريفة 150 ألف ليرة لبنانية، لكنه قرر النزول في جونيه، فإنه يقوم بتمرير بطاقته مرة أخرى على الجهاز، ليتم استرداد المبلغ بناءً على المسافة التي قطعها”.
ويضيف “رغم التحديات، فقد تم تجهيز الباصات بأحدث الأنظمة التكنولوجية المعتمدة في أوروبا، بما في ذلك كاميرات ذكية تعمل بالذكاء الاصطناعي، لرصد السائق وحركة الركاب داخل الباص. ويبيّن أن هذه الكاميرات مرتبطة مباشرة بغرفة عمليات تُراقب حركة الباصات على المسارات المحددة من قبل مصلحة النقل المشترك، لضمان سير العمل بكفاءة عالية”.
وفي إطار تحسين تجربة النقل المشترك، يشدّد ريما على وجود مجموعة من القواعد الصارمة التي تُطبّق داخل الباصات، وتشمل: حظر التدخين داخل الباص، ومنع السائق من استخدام الهاتف أو الأكل أثناء القيادة، الى جانب الالتزام بالسرعة المحددة والتوقف عند المحطات المخصصة. كما يلفت إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ترصد أي مخالفة بشكل فوري، ويتم الإبلاغ عنها تلقائيا، مما يضمن مستوى عاليا من الأمان والانضباط”.
اعتماد الدفع الإلكتروني
وعن نظام الدفع، يكشف ريما أنه تم تطبيق نظام الدفع الإلكتروني عبر بطاقات مسبقة الدفع، يمكن شراؤها من مراكز Bob Finance ونقاط البيع الثابتة المنتشرة على طول الخطوط. ويتابع “سعر البطاقة هو 250,000 ليرة لبنانية، وتشمل رصيدا بقيمة 70,000 ليرة لبنانية تكفي لرحلة واحدة داخل بيروت. كما تم تحديد تعريفات الركوب كالاتي: 70,000 ليرة لبنانية للتنقل داخل بيروت و100,000 ليرة لبنانية للاتجاه إلى بعبدا. بالإضافة إلى ذلك، تُتاح بطاقات الرحلة الواحدة للركاب، الذين لا يحملون بطاقات مسبقة الدفع، ويمكن شراؤها من السائقين أو نقاط البيع”.
ولمواكبة النظام الجديد، يشير ريما إلى “توظيف موظفين مؤقتين على متن الباصات، لتوعية الركاب حول كيفية استخدام البطاقات وتفعيلها، بالإضافة إلى بيعها مباشرة على متن الباصات. كما أعلن عن قرب إطلاق تطبيق ذكي، يُتيح للمواطنين الحصول على معلومات تفصيلية عن الخطوط، تعريفات الركوب، محطات الانتظار، ومواعيد مرور الباصات”.
رؤية مستقبلية
في الخلاصة، تعد هذه الخطوات محاولة جادة للنهوض بقطاع النقل المشترك في لبنان، الا ان التحديات المالية واللوجستية تظل أبرز العقبات التي تواجه المشروع. والسؤال الأهم: هل ستتمكن هذه الخطوة من تجاوز الإشكاليات المزمنة، التي لطالما عرقلت تقدم هذا القطاع؟