لم تخلُ موازنة العام 2019 من “حيل ضريبية”، تكرّس مبدأ الاستخفاف بالمال العام، وترسّخ ثقافة التهرب الضريبي لأصحاب رؤوس الأموال والشركات.
وإذا كان اللبنانيون في حال ترقّب لسلّة الإجراءات التقشفية، فهناك ما هو أكثر إيلاماً في مشروع الموازنة الحالية، التي تم فصل الإجراءات التقشفية عنها، ورفعها منفصلة الى مجلس الوزراء.
يتضمن مشروع موازنة العام 2019 العديد من الإجراءات الضريبية غير العادلة وغير المُنصفة لجميع المكلّفين، ويحتوي على الكثير من الإعفاءات، منها الواضح ومنها “المتلطّي” خلف تعابير قانونية ملتبسة، تفسح المجال عاجلاً أو آجلاً لتهرّب كبرى المؤسسات من الموجبات الضريبية.. وأولها المصارف.
وقد ورد في مشروع موازنة 2019 الذي حصلت “المدن” على نسخة منه، عدد من المواد تكرّس التمييز بين المكلّفين بشكل واضح، لاسيما على صعيد ضريبة الدخل والضريبة على الارباح.
المادة 23
تتضمن المادة 23 من الموازنة تعديل قانون ضريبة الدخل المفروضة على أرباح المهن التجارية والصناعية وغير التجارية، على نحو تبدأ الضريبة من نسبة 4 في المئة، ارتفاعاً إلى 25 في المئة، مقسمة على ست شرائح، على أن تبلغ نسبة الضريبة على الشريحة الأعلى أي لمن تتجاوز أرباحه 225 مليون ليرة نسبة 25 في المئة من أرباحه.
في حين أن أرباح شركات الأموال (الشركات المغفلة والشركات المحدودة المسؤولية وشركات التوصية بالأسهم بالنسبة للشركاء الموصين) فتخضع لضريبة نسبية قدرها 17 في المئة فقط.
على سبيل المثال، تطبيقاً لضريبة الدخل بشكلها الحالي: تخضع أرباح الشركات المالية مهما بلغت (وإن بملايين الدولارات) إلى نسبة ضريبة تبلغ 17 في المئة، في حين تخضع أرباح متجر صغير لضريبة بنسبة 25 في المئة، في حال تجاوزت أرباحه 225 مليون ليرة، أي 150 ألف دولار فقط. أين العدالة الضريبية في هذا البند؟ وما هو منطق التكليف؟ وما هي معايير العدالة الإجتماعية لدى المعنيين؟
المادة 26
المادة 26 تفرض رسماً إضافياً على رسوم السير السنوية، المتوجبة على السيارات السياحية الخصوصية من جميع الفئات التي تحمل لوحات 3 أو 4 أو 5 أرقام، على الشكل التالي: 500 ألف ليرة عن كل سيارة تحمل لوحة من 3 أرقام و250 ألف ليرة عن كل سيارة تحمل لوحة من 4 أرقام وكل رقم مميز، و100 ألف ليرة عن كل سيارة تحمل لوحة من 5 أرقام.
ولكن السؤال: ماذا عن السيارات التي تحمل لوحة من رقمين، أي لوحات المسؤولين النواب؟ ولماذا هم معفيون من رسوم السير؟
المادة 30
في هذه المادة نية واضحة للخداع وللتواطؤ المسبق مع المصارف. إذ تفرض هذه المادة ضريبة دخل بنسبة 10 في المئة على:
1- فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة كافة المفتوحة لدى المصارف، بما فيها حسابات التوفير (الإدخار)، باستثناء الحسابات المفتوحة باسم الحكومة والبلديات واتحادات البلديات والمؤسسات العامة لدى مصرف لبنان، وحسابات البعثات الدبلوماسية والقنصلية الاجنبية في لبنان.
2- فوائد وعائدات الودائع وسائر الالتزامات المصرفية، بأي عملة كانت، بما فيها تلك العائدة لغير المقيمين، باستثناء الودائع بين المصارف الخاصة (interbank deposits).
3- فوائد وإيرادات وعائدات حسابات الإئتمان وإدارة الأموال.
4- عائدات وفوائد شهادات الإيداع، التي تصدرها جميع المصارف وسندات الدين التي تصدرها الشركات المغفلة.
5- فوائد وإيرادات سندات الخزينة بالعملة اللبنانية.
وتنتهي هذه المادة بعبارة “تحدد دقائق هذه المادة عند الاقتضاء بقرار من وزير المال”!
في هذه المادة ثغرتان يفنّدهما خبير قانوني لـ”المدن”. الأولى، تتمثل في غياب شرائح المكلّفين، بمعنى أن جميع من يودع أموالاً في المصارف تقع عليه ضريبة على الفائدة بنسبة 10 في المئة. وعلى سبيل المثال: يخضع للضريبة نفسها الموظف الذي يضع تعويضه لنهاية الخدمة في المصرف، وكذلك رجل الأعمال الذي يودع نصف مليار دولار في حسابه. وكان الأجدى بالحريصين على المال العام، أن يفرضوا ضريبة تصاعدية تتناسب وحجم الحساب المصرفي.
أما الثغرة الثانية فهي أن المادة 30، وبذكرها عبارة “تحدد دقائق هذه المادة عند الاقتضاء بقرار من وزير المال”. فتحت المجال لمنح المصارف لاحقاً الموافقة على حسم هذه الضريبة من الضريبة على أرباحها لدى سدادها ضريبة الدخل. من هنا رأى الخبير القانوني أنه يجب النص، وبوضوح، على عدم حسم هذه الضريبة من الضريبة على أرباح المصارف، لأن المودع يتحمل هذا العبء وليس المصرف.
المادة 41
تجيز المادة 41 إجراء تسوية على التكاليف المتعلقة بالضرائب، التي تحققها وتحصلها مديرية المالية العامة المقدمة أمام لجان الاعتراضات.
بمعنى أنه، بصورة إستثنائية، تسوى التكاليف المتعلقة بالضرائب التي تحققها مديرية المالية العامة المعترض عليها أمام لجان الاعتراضات، والتي لم يتم البت بها، وتحدد قيمة التسوية بـ50 في المئة من قيمة الضرائب المعترض عليها فقط، من دون غرامات التحقق التي كانت متوجبة.
وهذا البند شديد الخطورة، لأن الدولة تعفي فيه كل من اعترض بنسبة 50 في المئة من قيمة الضريبة، بصرف النظر إذا كان محقاً باعتراضه أو غير محق، وبذلك تكون الدولة قد فتحت الباب للتهرب من سداد 50 في المئة من الضريبة.
المواد من 31 حتى 36
بموجب هذه المواد وسواها، يتم تخفيض غرامات التحقق والتحصيل التي تتولى مديرية المالية العامة فرضها وجبايتها. وتبلغ قيمة الخفض 90 في المئة، كما يتم تخفيض بنسبة 90 في المئة من الغرامات المتوجبة على أوامر التحصيل، الصادرة عن الدارات العامة والمؤسسات والبلديات وغيرها، ويتم تخفيض الغرامات المتوجبة على رسوم الميكانيك والرسوم البلدية. والأسوأ من كل ذلك، تخفيض الغرامات وزيادات التأخير المترتبة على اشتراكات الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي بنسبة 90 في المئة.
في هذه المواد تساوي الدولة بين الملتزم سداد الضرائب والرسوم وبين من يتهرب من سدادها، بحجة تشجيع المتخلفين على السداد. إلا أن سياسة خفض الغرامات بهدف التشجيع على السداد رائجة في كافة دول العالم، لكن بنسبة لا تزيد عن 40 في المئة وليس 90 في المئة. فالإعفاء بنسبة 90 في المئة من الغرامات من شأنها أن تشجع المكلفين من الشركات الكبرى على التأخر بالسداد والحفاظ على سيولتها، بانتظار الإعفاءات من الغرامات.
منافذ للتهرب
هناك العديد من المواد الأخرى الملتبسة، والتي تشكل منفذاً للتهرب من الموجبات الضريبية، ولا تخدم سوى الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، الذين يمتنعون عن سداد الضرائب والرسوم والاشتراكات، وتشجعهم على مشاطرة الدولة بالمال العام.
وخلاصة القول أن مشروع موازنة العام 2019 لن يستمر بشكله الحالي، إذ أن أرقام الواردات والنفقات فيه لن تتم مطابقتها على أرض الواقع. ومن المرجح أن يتم فتح المزيد من الاعتمادات الإضافية.
أما بالنسبة إلى سلة الإجراءات التقشفية المرتبطة بالرواتب والأجور، فقد جرى ترحيله إلى مجلس الوزراء تجنباً لتحمل وزير المال الأمر منفرداً.