من يتابع تصريحات وزير المال ياسين جابر عن مشروع موازنة 2026 يخاله خاليًا من أي ثغرات ومطبّات، ومن العجز وفرسان الموازنة، وبريء من أي زيادات ضريبية، وأكثر من ذلك يقول جابر في إحدى مقابلاته إن “موازنة عام 2025 قد تحقق فائضًا صغيرًا كما تشير بعض المؤشرات” وعليه يتم العمل على تحقيق فائض في موازنة 2026. ولكن في حقيقة الأمر أن موازنة 2025 لم تحقق فائضاً أو أقله لا يمكن التحقق من ذلك ولا الموازنة الحالية ستحقّق أي فائض ما دامت عملية إعدادها تتم وفق الآلية نفسها التي تمت بها موازنات السنوات السابقة.
فلا قطع حساب ولا احتساب لكافة النفقات ولا إدراج لبنود إصلاحية ولا تصحيح ضريبي، ويُضاف كل ذلك إلى تجاهل منافذ هامة للإيرادات وترسيخ استنسابية الإعفاءات والتغاضي عن مكامن الخلل في الموازنات السابقة وتكرارها في مشروع موازنة 2026.
وفي ما يلي بعض الشوائب الواردة في موازنة 2026 والتي تعد كافية لنقض تأكيدات وزير المال بـ”تصفير العجز”.
العجز ليس صفراً
ورد في مشروع الموازنة في مادتها الثالثة بالجزء الثاني تقدير الواردات الاستثنائية بصفر (0 ليرة) في إشارة إلى عدم وجود عجز في الموازنة، وهنا نسأل أين ذهبت خدمة الدين والديون المتراكمة على الدولة؟ ألا يجب أخذها بالاعتبار ولحظها في الموازنة؟
ثم كيف يمكن لوزير المال الجزم بتحقيق فائض عن موازنة عام 2025 في ظل غياب قطع حساب عن العام الفائت؟ والسؤال نفسه ينطبق على العام الحالي والمقبل، ما لم يقر قطع حساب. وكيف يمكن مراقبة تنفيذ الموازنة وتقييم التوقعّات الواردة في قانون موازنة عام 2026 بدقّة من دون قطع حساب.
وإذا حاولت وزارة المال إيهام المجتمع الدُّوَليّ بتحقيق صفر عجز في الموازنة من خلال تصفير بند الواردات الاستثنائية غير أنه لا يمكن تغيير الواقع القائم على استثناء العديد من النفقات من الموازنة وعلى رأسها خدمة الدين العام المتراكم وديون الدولة.
أما المادة 7 من مشروع الموازنة فتتيح لرئيس الجمهورية أن يتخذ مرسوماً بناء على قرار صادر عن مجلس الوزراء بفتح اعتمادات استثنائية أو بنقل اعتمادات في موازنة العام 2026، على ألا تتجاوز تلك الاعتمادات 1000 مليار ليرة. وهذه المادة تطرح تساؤلات حول ما إن كان المقصود ألا يتجاوز مجموع الاعتمادات الاستثنائية قيمة 1000 مليار ليرة أو أن يبلغ سقف كل اعتماد إضافي سقف 1000 مليار ليرة.
وكيف يمكن أن يكون العجز “صفراً” في وقت يشرّع فيه الباب لفتح اعتمادات إضافية خلال العام، مع الإشارة إلى أن الاعتمادات التي فتحت خلال العام 2025 رقمها خيالي.
إنفاق “غير محسوب”
عمدت الحكومة خلال عام 2025 إلى الإنفاق من حساب الخزينة 36 في مصرف لبنان وهو حساب جاري يشمل الأموال المحصلة لصالح الدولة، غير أنه ووفق المعلومات، كانت وزارة المالية تنفق من هذا الحساب بموجب اعتمادات استثنائية على أنه فائض، ومن بين ما أنفقت مبالغ مجموعها 25 ألف مليار لصرف رواتب المتقاعدين وذلك بموجب مرسوم علمًا أن هذا الإنفاق يستلزم قانونًا وليس مرسومًا.
وقد تذرعت المالية بأنها تنفق من “مال الاحتياط”، والمعروف أن مال الاحتياط هو الوفر الحاصل نتيجة تفوق الواردات على النفقات، وهذا أمر غير دقيق إذ لا يوجد احتياط مالي أصلاً في الموازنة.
وتعلّق عضو لجنة المال والموازنة النائب غادة ايوب على الأمر بالقول: “إن الاعتمادات الإضافية سواء فتحت بمرسوم أو قانون فإنها تشكّل زيادة على تقديرات الموازنة”، متسائلة “ما هو مصدر أموال الاعتمادات الإضافية ومن أين يتم تأمين الأموال وكيف يمنحون الحق لأنفسهم بمد اليد إلى حساب الخزينة الذي هو أصلًا جاري وليس فائضًا”. وتابعت “هل سيفتح الباب في موازنة 2026 لاعتمادات إضافية ويخبرونا أننا صفر عجز؟ وهل سيستمرون بالسحب من الحساب 36 من دون قانون؟”
من هنا لا يمكن التسليم بما يُعلن عن أن موازنة 2026 ستكون “صفر عجز”، لاسيما أن الادعاء بأن موازنة 2025 كانت صفر عجز وربما سينتج عنها فائض كما صرح وزير المال، لن يثبت صحته في ظل غياب قطع حساب، فكيف يمكن بناء ثقة بأرقام موازنة غير دقيقة وغير نهائية طالما أن الاعتمادات الاستثنائية مطروحة بشكل مسبق، وكيف يمكن للنواب العودة إلى التنفيذ الفعلي للموازنة من أجل مراقبة تنفيذها، وتقييم التوقّعات الواردة في قانون موازنة 2026 بدقّة ما لم يتوفر قطع الحساب.
تعديلات ضريبية
ليس صحيحاً أن الموازنة لم تشمل زيادات في الضرائب والرسوم، ففي العديد من موادها أدرجت تعديلات ضريبية تدخل في غالبيتها تحت خانة “فرسان الموازنة” وهو ما تركز البحث عليه خلال الجلسة الأخيرة للحكومة، إذ لا يجوز إدراج تعديلات ضريبية على مختلف القوانين الضريبية في الموازنة إنما الأجدى أن يتم تعديل قوانين الضرائب بشكل مستقل بعيدًا عن الموازنة.
ومن بين التعديلات الضريبية تعديل في المواد 36 و37 على الضريبة على القيمة المضافة TVA والمادة 33 وما سواها من المواد الضريبية وهناك أيضا تعديلات على ضريبة الدخل وجميعها من فرسان الموازنة.
كما تم رفع الغرامات في المواد 16 و17 بمعدل 25 ضعفًا. علمًا أنه بموجب موازنة 2025 تم تعديل الرسوم والغرامات وتمت مضاعفتها بنحو 45 ضعفًا لمعادلتها مع سعر الصرف الرائج، والسؤال هل بتنا نعمل بسعر صرف يفوق السعر الحقيقي أي 89500 ليرة للدولار؟ ثم كيف نزيد الغرامات من جهة ونعفي من الغرامات بقيمة 85 في المئة من جهة أخرى.
وتم تعديل رسوم بطاقة الهُوِيَّة ورفعها بقيمة مليون ليرة ومعاملات تسجيل الزواج والطلاق والغرامات وغيرها من المعاملات المرتبطة بالأحوال الشخصية، في المواد 21 و22 من الموازنة.
ولم تنفد رسوم الأمن العام من الزيادات ففي المادة 43 تم إدخال تعديلات كبيرة قضت بزيادة كافة الرسوم على المعاملات والإقامات وسمات الدخول وكافة المعاملات التي يصدرها الأمن العام باستثناء فقط رسوم جوازات السفر، بقيمة تتراوح بين 30 و50 في المئة.
وفي المادة 31 تعطي الموازنة إجازة لإدارة الجمارك باستيفاء رسمًا بنسبة 3 في المئة من قيمة كل عملية استيراد كأمانة على حساب ضريبة الدخل، وقد برّرت وزارة المال هذه المادة بأنها تهدف إلى تفعيل الالتزام الضريبي.
وفي المادة 42 تعطي الحكومة نفسها حق التشريع بالحقل الجمركي على مدار 5 سنوات، كما تعطي حق التشريع أيضا للمجلس الأعلى للجمارك وهذا الأمر قد يجوز في الحالات الاستثنائية كالفراغ السياسي وليس في الحالات الطبيعية وغير الاستثنائية.
لكن يبقى الأخطر من هذه المادة تلك التي تكرّس الاستنسابية بين المواطنين، وهي المادة 30 التي تعطي الإجازة لوزير المال بإلزام “بعض” المكلّفين الذين يمارسون نشاطًا معينًا، باقتطاع نسبة 3 في المئة من المبالغ التي يدفعونها لقاء عمليات تسليم مواد أو تقديم خدمات خاضعة لضريبة الدخل، وتكمن المشكلة هنا في توجيه الاقتطاع إلى بعض المكلفين وليس فئة معينة من المكلفين. فالضريبة عادة لا تطال شخصية معينة إنما فئة معينة من المكلفين وفي هذه المادة يرسخ التمييز بين المكلفين وفق ما يرتأي وزير المال في ظل غياب معايير واضحة، وهو ما يعني تطبيق الرسوم باستنسابية.
ومن بين الإعفاءات مادة ملتبسة هي المادة 19 التي تعد أيضا من فرسان الموازنة، وتعفي الشخصيات التي تدخل لبنان بدعوة رسمية من رسم الدخول والخروج وقد ذيّلت هذه المادة بجملة، العودة إلى العام 2022 اي بمفعول رجعي، وهو أمر مخالف وغير قابل للتطبيق، إلا اذا كانت وزارة المال قد أوردت هذه الجملة عن طريق الخطأ بحسب ما يرجّح.
دكان فساد جديد
وتبقى أسوأ سقطات مشروع موازنة 2026 العودة خطوة إلى الخلف في مِلَفّ الطوابع المالية، إذ سيتم استئناف العمل بالطوابع الورقية بحسب المادة 25 من الموازنة. وقد أعطت موازنة 2026 الحق للمخاتير والبلديات واتحادات البلديات ببيع طوابع ورق على أن يستحصلوا على جعالة بقيمة 7 في المئة بحسب المادة 26. والسؤال هنا أين أصبح الطابع الإلكتروني؟ ولماذا لا يتم تعميم آلات الوسم على المعنيين بالطوابع إلى حين اعتماد الطابع الإلكتروني؟
والسؤال الأهم كيف نسعى إلى تنفيذ إصلاحات وسد مزاريب الفساد ونبقي في الوقت نفسه على هذه الأبواب التي أشبه ما تكون “دكاناً للفساد” إذ سيبفتح ملف الطوابع الورقية من جديد قضية التعهدات بالطباعة وكل ما يرتبط بالملف من احتكار وابتزاز وسوق سوداء.



