تطرح اتفاقية تأسيس منطقة التجارة الحرة التي وقعتها الصين و14 دولة آسيوية، يوم الأحد الماضي، تحديات ضخمة أمام الولايات المتحدة التي تسعى لعزل الصين عن محيطها الآسيوي ومحاصرتها تجارياً واقتصادياً، ضمن استراتيجية التنافس الجاري بينهما على بناء “النظام العالمي الجديد”. وتفتح اتفاقية منطقة التجارة الحرة الباب أمام بكين لتنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”، كما تمنحها نفوذاً أكبر في منطقة جنوب شرقي آسيا على حساب النفوذ الأميركي.
ووفق معهد بروكغنز للدراسات الاستراتيجية في واشنطن، فإن “الاتفاقية الخاصة بتأسيس أكبر منطقة تجارة حرة في العالم بدون الولايات المتحدة ستحاصر النفوذ الجيوسياسي والتجاري والاقتصادي الأميركي في آسيا، وربما تُجبر الولايات المتحدة على إعادة النظر في استراتيجية التعامل مع حلفائها في جنوب شرقي آسيا في المستقبل”. ويضيف المعهد في دراسة بهذا الشأن أن الاتفاقية ستضرب كذلك الاستراتيجية الأميركية التي بناها الرئيس دونالد ترامب خلال الأربع سنوات الماضية والقائمة على منح أولوية للترتيبات الأمنية لدول جنوب شرقي آسيا على حساب مصالحها الاقتصادية والتجارية.
ولاحظ خبراء في العلاقات الأميركية ـ الآسيوية أنّ الاستراتيجية الأميركية التي نفذها ترامب وضعت حلفاء الولايات المتحدة في آسيا أمام خيارات محدودة، تمثلت في الاختيار بين التحالف مع واشنطن أو بكين، من دون النظر للاعتبارات الأخرى التي تجمع هذه الدول مع الصين كقوة اقتصادية وتجارية كبرى لا يمكن تجاهلها.
ومن المتوقع أن تساهم الاتفاقية في زيادة كفاءة اقتصادات دول جنوب شرقي آسيا وتزيد من سرعة تكامل اقتصاداتها، وبالتالي ستجد الحكومة الأميركية صعوبة في المستقبل في إغراء هذه الدول بالحماية العسكرية والترتيبات الأمنية مقابل تشكيل تحالف تجاري واقتصادي مقاوم للصين في آسيا. وبحسب معهد بروكغنز، فإن اتفاقية تأسيس أكبر منطقة تجارة حرة في العالم ستزيد كذلك من الدخل العالمي بنحو 209 مليارات دولار، وترفع حجم التجارة العالمية بنحو 500 مليار دولار بحلول عام 2030.
لكن السؤال الذي يطرحه العديد من خبراء الاستراتيجيات الدولية هو ما الذي ستفعله الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والتجاري في آسيا وربما العالم بعد التوقيع على اتفاقية منطقة التجارة الحرة في آسيا والمحيط الهادئ؟
حتى الآن من غير المعروف ما هي خطة الولايات المتحدة لمحاصرة هذه الخطوة التجارية الكبرى التي تجمع اقتصادات يفوق حجمها 26 تريليون دولار في تكتل تجاري واحد، خاصة في ظلّ الوضع السياسي الذي تمر به البلاد.
الرئيس المنتخب جو بايدن قال يوم الإثنين، بحسب ما نقلت نشرة “نيكاى آسيا”، إن بلاده ستتحالف مع الاقتصادات الديمقراطية في العالم، وهو ما يعني أن إدارة بايدن في حال حدوث انتقال سلس للسلطة، تنوي تشكيل تحالف تجاري اقتصادي مع كل من دول الاتحاد الأوروبي والهند وبريطانيا وأستراليا واليابان وبقية الديمقراطيات في آسيا، وهو تحالف لا يستبعده خبراء في الشؤون التجارية، خاصة في حال أبدى بايدن مرونة وتفهماً لمخاوف حلفاء الولايات المتحدة التي تجذرت خلال السنوات الأربع الماضية.
يذكر أن الاتفاقية المتعلقة بتأسيس أكبر منطقة تجارة حرة في العالم التي وقعت يوم الأحد، لم توضع بعد حيز التنفيذ ويحتاج تنفيذها عملياً إلى موافقة الجهات التشريعية أو برلمانات الدول الديمقراطية الأعضاء في آسيا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من الدول الموقعة، وبالتالي فهناك ثغرة مفتوحة أمام الإدارة الأميركية الجديدة لتقديم إغراءات تجارية واستثمارية تجعل بعض الدول المشاركة في مشروع الاتفاقية ترفض الموافقة عليها.
في هذا الشأن قال الرئيس المنتخب بايدن: “نستطيع وضع القوانين لخريطة الطريق الاقتصادي بدلاً من ترك ذلك للصين وآخرين لتحديد المسار الاقتصادي للعالم”. واكتفى بايدن بذلك دون الخوض في تفاصيل، ولكنه ذكر في تعليقات لنشرة “نيكاي آسيا” اليابانية أن لديه خطة سيعلن عنها في يناير/ كانون الثاني المقبل.
وربما تكون منطقة التجارة الحرة في آسيا أكبر تحدٍّ عالمي سيواجهه الرئيس المنتخب بايدن، إلى جانب تحديات جائحة كورونا التي تضرب نمو الاقتصاد الأميركي في وقت تشير فيه البيانات الاقتصادية والتجارية إلى نمو سريع في الاقتصاد الصيني. وتتفشى جائحة كورونا بسرعة في الولايات المتحدة، إذ باتت تساوي نسبة الإصابات فيها نحو 20% من إجمالي الإصابات في العالم بحسب بيانات جامعة جون هوبكنز، كما أن عدد الوفيات بلغ 247 ألف وفاة.
ويرى محللون أن اتفاقية منطقة التجارة الحرة في آسيا تفرض واقعاً جديداً في المسار التجاري والاقتصادي العالمي، إذ إنها تدعم حرية التجارة والعولمة والاتفاقات التجارية المقرة من قبل منظمة التجارة العالمية، وبالتالي ستنقل العالم خارج إطار السياسة الحمائية التي أقرها الرئيس ترامب، وستفرض على الولايات المتحدة التعاون التجاري والاستثماري مع حلفائها في العالم بدلاً من صراعات الرسوم والشكاوى التجارية.
في هذا الشأن، يقول فريدريك نيومان مسؤول الأبحاث بمصرف “أتش أس بي سي” البريطاني أن الولايات المتحدة ربما تقوم بتوقيع اتفاقات تجارية ثنائية مع الاقتصادات بالدول الديمقراطية الأعضاء في اتفاقية منطقة التجارة الحرة في آسيا. ومن بين الدول الـ15 التي وقعت على الاتفاقية، لدى الولايات المتحدة اتفاقات تجارية ثنائية مع ثلاث دول فقط، وهي كوريا الجنوبية وأستراليا وسنغافورة.
وقد تركز الولايات المتحدة على توقيع اتفاقية شراكة تجارية واستثمارية مع الهند التي تعد المنافس الحقيقي في المستقبل للاقتصاد الصيني في آسيا من حيث القوة الشرائية وتوقعات النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الهند انضمت للمحادثات في بدايتها في عام 2012، إلا أنها انسحبت من المفاوضات في العام الماضي بسبب مخاوفها على أسواقها من الإغراق بالبضائع الصينية الرخيصة. كما أن الحكومة الهندية تأمل في التعاون أكثر مع الولايات المتحدة في أعقاب توتر العلاقات مع الصين.
ويلاحظ أن اتفاقية منطقة التجارة الحرة منحت الهند استثناء في الانضمام لاحقاً للاتفاقية مقارنة ببقية دول العالم، إذ بينما حددت فترة الانضمام للأعضاء الجدد بنحو 18 شهراً قبل إغلاق الباب، فإنها تركت الباب مفتوحاً أمام الهند التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في آسيا بعد الصين واليابان.
على صعيد الأضرار التجارية التي تسببها هذه الاتفاقية للنفوذ التجاري والاقتصادي والجيوسياسي للولايات المتحدة في آسيا، يرى “معهد بيترسون للاقتصاد العالمي”، ومقره في واشنطن، أن الولايات المتحدة ستخسر من هذه الاتفاقية بطريقتين: أولاً الاتفاقية ستخفض حجم الصادرات الأميركية إلى دول آسيا ومنطقة المحيط الهادئ بسبب فقدانها الميزة التنافسية بعد إزالة الحواجز الجمركية بين الدول الأعضاء في منطقة التجارة الحرة. كما أن الاتفاقية ستعزز النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي في واحدة من أكثر مناطق العالم نمواً في العالم.
كذلك يحذّر المعهد من مخاطر هذه الاتفاقية على مستقبل الهيمنة الأميركية، ويقول في تحليل إنه في حال نجاحها فإنها ربما تجذب شركاء كباراً للولايات المتحدة في التجارة، من بينهم دول الاتحاد الأوروبي. ولم يستبعد محللون أن تضطر دول الاتحاد الأوروبي لطلب العضوية في اتفاقية منطقة الحرة الآسيوية في المستقبل، خاصة إذا لم تطرح الإدارة الأميركية بديلاً واضحاً في العام المقبل. وعانت دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأربع الماضية من الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب على بضائعها.
يُذكر أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ التي تعرف اختصاراً بـ”تي بي بي” التي أنشأتها الولايات مع الدول الآسيوية ودول المحيط الهادئ في 4 فبراير/ شباط عام 2016، فتح الباب أمام الصين لقيادة الدول الـ11 الأعضاء في اتفاقية “تي بي بي” لتكوين كتلة تجارية بديلة.