ثلاثة أشهر على بدء العام 2019 ولا يوجد حتى الساعة موازنة. ثلاثة أشهر بلغ فيها إجمالي الإنفاق العام (من دون خدمة الدين العام) 2.75 مليار دولار أميركي بحسب التقديرات، وبلغت إستحقاقات الدين العام في هذه الأشهر الثلاثة الأولى 614 مليون دولار أميركي، أي ما مجموعه 3.37 مليارات دولار أميركي.
القاعدة الثلاثية لا يُمكن إستخدامها في حالة المالية العامّة لمعرفة إجمالي الإنفاق للعام 2019، بحكم أنّ استحقاقات اليوروبوند ليست موزّعة بشكل متساوٍ على أشهر السنة، وأنّ الإستحقاقات الكبيرة تأتي في شهري أيار وتشرين الثاني. لكن إذا ما أخذنا مُعدّل إنفاق شهري للعام 2018 (من دون خدمة الدين العام) بقيمة 2086 مليار ليرة لبنانية، فهذا يوصلنا إلى إنفاق سنوي في العام 2019 بقيمة 11 مليار دولار أميركي. أضف إلى هذا الرقم إستحقاقات الدين العام للعام 2019 أي 4.76 مليارات دولار أميركي، فإن مجموع الإنفاق لهذا العام سيبلغ 16.4 مليار دولار أميركي أي ما يوازي إنفاق العام الماضي.
هذا على الورق، اما الحقيقة فأصعب من ذلك!
إستحقاقات اليوروبوند العام الماضي كانت 3.6 مليارات د.أ، وهذا العام 4.76 مليارات د.أ. إذاً هناك زيادة في استحقاقات اليوروبوند بأقلّه مليار دولار أميركي، ما يعني انّ هناك إستحالة أن يكون إنفاق العام 2019 موازياً لإنفاق العام 2018 وبالتالي فهناك أقلّه زيادة بقيمة مليار دولار أميركي على إنفاق العام الماضي.
بالطبع، الصورة لم تكتمل بعد، فاستحقاقات الدين العام معروفة بدقة من الأسواق، إلا أنّ الغموض يأتي من بند الأجور في الدرجة الأولى، بند الكهرباء في الدرجة الثانية، والإنفاق التشغيلي في الدرجة الثالثة. هذه البنود مرشّحة بقوة إلى الإزدياد مع إرتفاع عدد الموظفين في القطاع العام، لكن أيضًا مع القرارات التي ستطال مؤسسة كهرباء لبنان، مما سيُرتّب عجزاً إضافياً عن العام 2018 بقيمة 3 مليارات دولار أميركي بحسب التقديرات، أي ما مجموعه 9 مليارات دولار أميركي.
سيناريو الـ9 مليارات دولار أميركي عجز في موازنة العام 2019 هو السيناريو في حال لم يتمّ القيام بأية إجراءات تصحيحية. وبفرضية الإستمرار على نفس النهج، فإنّ موازنة العام 2020 ستحمل عجزًا بقيمة 11 مليار دولار أميركي، ما يعني أنه في العام نفسه، سيكون مستوى الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي 200%. هذا السيناريو كارثي ولا يُمكن الإستمرار فيه.
السيناريو الآخر، والذي أسميناه «سيناريو سيدر» والذي يتضمن إصلاحات وإستثمارات، ينصّ على أن مستوى العجز في الموازنة ونتيجة الـ momentum في الإنفاق، سيرتفع إلى 7.57 مليارات دولار في العام 2019، ليُعاود إنخفاضه إلى 7.34 مليارات دولار في العام 2020، مما يعني كسرّ وتيرة إرتفاع الدين العام إبتداءً من العام 2020. هذا السيناريو كما سبق الذكر، يضم إصلاحات أساسية تطال البنود الثلاثة الآنفة الذكر أي الأجور، الكهرباء والإنفاق التشغيلي.
على صعيد كتلة الأجور، ليس من السهل خفض هذا البند. إلا أنّ الأساس في العملية الإصلاحية يتمحوّر حول نقطتين:
الأولى: وقف التوظيف بكل ما للكلمة من معنى وتحت أي مُسمّى كان.
الثانية: عدم إستبدال الأشخاص الذين يبلغون السنّ القانونية إلا بمعدّل واحد لكل ثلاثة على التقاعد.
هذا الأمر سيسمح بلجمّ زيادة كتلة الأجور بمعدّل 435 مليون دولار أميركي سنويًا، وهو المُعدّل العام السنوي منذ العام 2007.
على صعيد الإنفاق التشغيلي، من الواضح أنّ خفض هذا البند بأقلّه 20% هو أمر ضروري، كما اقترحه الرئيس الحريري العام الماضي. لكن هذا الخفض لا يجب أن يكون على الورق فقط كما حصل في العام 2018، بل يجب أن يُطبّق على الأرض من خلال لجم بنود السفر، الإيجارات، التعويضات للجان، التجهيزات وغيرها. هذا الأمر سيسمح بتوفير ما لا يقلّ عن مليار دولار إذا ما طُبّق في كافة وزارات ومؤسسات الدوّلة.
على صعيد الكهرباء الأمور مُعقّدة أكثر، وذلك بحكم البُعد السياسي والكباش بين الأفرقاء السياسيين على هذا البند. فخيارات حلّ مُشكلة الكهرباء كثيرة، إلا أنّ المُشكلة الأساسية تبقى في الحلّ على الأمد القصير إلى المُتوسّط. أي خيار لحلّ وسطي ستكون له كلفة. من هنا يتوجّب مقاربة هذا الملف من وجهة نظر مُختلفة، أي إمكانية إعتماد خيارات مُوجعة (للجميع!).
الجدير ذكره، أنّ مُعدّل دعم مؤسسة كهرباء لبنان في العام 2018 بلغ 150 مليون دولار أميركي شهريًا. هذا الرقم يُمكن توفيره على المدى المتوسّط إلى البعيد.
التصاريح التي أدلى بها العديد من المسؤولين اللبنانيين حول عدم إحتواء مشروع موازنة العام 2019 أية ضرائب، تؤدّي إلى نتيجة حتّمية، وهي أنّ العجز سيزداد في موازنة العام 2019! لذا، باعتقادنا ونظرًا لحساسية الوضع التي وصلت اليه الأمور إلى حدّ اللعب بالنار، نرى أن هناك إلزامية لفرض عدد من الضرائب تأتي بزيادة 4% على إجمالي الإيرادات في العام 2019، و10% إبتداءً من العام 2020. هذا السيناريو هو الذي إعتمدناه في المحاكاة التي قمّنا بها، حيث أن السنوات التي ستلي، ستشّهد إرتفاعاً في مداخيل الدولة تلقائيًا نتيجة الإستثمارات من مشاريع «سيدر1».
ويبقى السؤال عن نوع الضرائب التي يُمكن فرضها؟ بالطبع، الضرائب إجراء غير شعبي وقد يرفضه العديد من السياسيين نظرًا إلى التعاطي الإعلامي الحالي مع ملف الفساد، والذي سيلعب ضدّ أي إقتراح ضريبي. إلّا أنّ هذا الواقع الأليم هو أمر حتمي نظرًا إلى أنّ محاربة الفساد لن تأتي بثمارها في العام 2019 ولا في العام 2020.
توجّهات المُنظّمات الدوّلية أو بالأحرى توصياتها، تنصّ على فرض رسوم على البنزين أو زيادة الضريبة على القيمة المُضافة لما لهذه الإجراءات من مردود سريع على خزينة الدوّلة. لكن وكما سبق الذكر، من الصعب جدًا إقرار مثل هذه الضرائب إلا بفاتورة سياسية تكون على حساب شعبية من يُصوّت على هذه الضرائب.
من هنا نقترح التوجّه نحو الضرائب على الموارد غير المُستخدمة في الماكينة الإقتصادية كالأملاك البحرية والنهرية، الحسابات المصرفية التي تفوق مستوى مُعيّن والتي لا تُستخدم في الإستثمارات، الضرائب على الشقق الشاغرة (مما يحلّ جزئيًا مُشكلة الإسكان)، وإعادة فرض رسوم على السلع والبضائع المُستوردة من الخارج والتي لها نظير في لبنان.
في الختام، نرى أن من الضروري على الحكومة الإسراع في إيلاء الملفّ الإقتصادي إهتمامًا أكبر وأخذ القرارات الصائبة والموجعة في آن لإنقاذ المركب ومن فيه.