بداية نهاية هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي

 

 

أعلن ​البنك المركزي الأوروبي​ الاسبوع الماضي أن حصة ​اليورو​ في الاحتياطات الرسمية العالمية من ​العملات​ الأجنبية شهد زيادة بأكثر من نقطة مئوية واحدة في العام الماضي، تزامنا مع تراجع هيمنة ​الدولار​.

واكد البنك الأوروبي إن حصة اليورو في الاحتياطي النقدي العالمي من العملات الأجنبية زادت إلى 20.7 في المائة في 2018.

وبالتزامن مع هذا الاعلان اتفقت ​روسيا​ و​الاتحاد الأوروبي​ على تشكيل مجموعة عمل لتقليص حصة الدولار في ميزان المدفوعات بينهما والانتقال إلى الروبل واليورو، وفقا لما كشفه مسؤول روسي لصحيفة “آر بي كا” الروسية.

الخبران غير متصلين الا انهما يأتيان في سياق واحد ومسار قد يؤدي في نهاية المطاف الى التخلي عن الدولار بشكل كبير فتسقط هيمنتها على ​الاقتصاد العالمي​ ، كترجمة لنوايا موجودة منذ سنوات لدى كل من ​الاتحاد الاوروبي​ وروسيا و​الصين​ ودول أخرى ، ولكن من أن دون تجد حتى الان السبيل لتحقيقها .

رغبة قديمة

والواقع ان الرغبة بالتخلي عن الدولار واعتماد الاقتصادات الكبيرة في العالم على عملات أخرى تعود الى رغبتها بتعزيز هذه العملات وبتحقيق مصالحها المالية بالدرجة الاولى ، الا ان هناك سببا اضافيا وقويا يتمثل بالتحرر من الوصاية الاميركية على الاقتصاد العالمي ، وخصوصا بعدما بين ​الرئيس الاميركي​ ​دونالد ترامب​ الوجه الابشع لهذه الوصاية من خلال ​الحروب​ التجارية التي يخوضها ضد الجميع ، وسياسة تأديب المتمردين على قرارته من خلال ​العقوبات​ ورفع ​الرسوم الجمركية​ ومحاصرة بعض الدول ، وآخر الامثلة على ذلك الحصار المفروض على ​ايران​ والذي الحق اضرارا جسيمة باقتصادها ، ولكنه ايضا كبد الاتحاد الاوروبي ودول أخرى خسائر كبيرة .

وقد عبر عن ذلك خير تعبير ​الرئيس الروسي​ فلاديمير ​بوتين​ خلال مشاركته في منتدى استثماري عقد في ​موسكو​ نهاية العام الماضي، اذ قال: “لا نسعى للتخلي عن الدولار، هو الذي يبتعد عنا، وأولئك الذين يتخذون قرارات العقوبات الخاصة بهم يطلقون النار على أسفل بطونهم. وعدم استقرار الحسابات بسبب الدولار يخلق رغبة في الاقتصادات العالمية للعثور على عملات احتياطية بديلة وإنشاء أنظمة مصرفية مستقلة عن الدولار”.

ودعا الرئيس الروسي ​الولايات المتحدة​ للتخلي عن سياسة العقوبات أحادية الجانب، وبدلا من ذلك السعي إلى إيجاد أرضية مشتركة، مشيرا إلى أن 70% من واردات روسيا و30% من صادراتها تنفذ بالعملة الروسية “الروبل ، مؤكدا ان بلاده تتجه نحو الاستغناء عن الدولار في تعاملاتها، لكن ذلك لن يحدث على حساب مصالحها”.

آليات جديدة

وتعتزم روسيا والاتحاد الاوروبي في الاشهر المقبلة ايجاد آليات جديدة تتعلق ب​تجارة​ ​الطاقة​ من خلال  استخدام العملات الوطنية فيها بهدف تقليل المخاطر، التي قد يتعرض لها قطاعا الأعمال في روسيا والاتحاد الأوروبي.

ووفقا لبيانات ​البنك المركزي الروسي​، فإن حصة التعاملات بالروبل في تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي تبلغ 8.3% فقط، فيما تشكل حصة اليورو 34.3%، أما الحصة الأكبر فتعود للدولار (54%)، ويرجع ذلك بشكل أساسي كون إمدادات ​النفط​ و​الغاز​ يتم احتسابها بالدولار.

وتريد موسكو ان تعمل مع شركائها التجاريين الرئيسيين على إنشاء أنظمة مصرفية ومالية مستقلة عن نظام “​سويفت​” الدولي، للخدمات المصرفية.

وكذلك تسعى روسيا لحماية نظامها المصرفي وتأمين استقرارها لاسيما في ظل سياسة العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة ضدها وضد دول كثيرة، وفي هذا الإطار أطلقت روسيا خلال العام الجاري منظومتها المالية FFSالتي تشبه نظام “سويفت”.

تكتلات اخرى

وكانت موسكو قد بدأت خطوات هامة للتخلي عن الدولار مع شركائها في بعض التكتلات الدولية، فزاد ​الاتحاد الأوراسي​، الذي يضم روسيا وكازخستان و​بيلاروسيا​ وارمينيا وقيرغستان، من استخدام العملات الوطنية وخصوصا ​الروبل الروسي​ في التجارة بين أعضائها لتصل حصة هذه التعاملات في النصف الأول من هذا العام إلى 70%.

كذلك فعلت ​مجموعة بريكس​ (البرازيل وروسيا و​الهند​ والصين وجنوب أفريقيا) التي اتخذت خطوات نحو زيادة التعاملات بعملات الدول الأعضاء في التكتل.

الاتحاد الاوروبي

اوروبيا تزايدت مشاعر الاحباط في العواصم الأوروبية في السنوات الاخيرة ، وخصوصا منذ تولي ترامب الرئاسة الاميركية، بسبب هيمنة الدولار في العالم كعملة احتياطية، وهو ما يمنح الولايات المتحدة قوة دبلوماسية واقتصادية ليس لها نظير في العالم المعولم.

ووجدت الحكومات و​المصارف​ والشركات المتعددة الجنسيات تخضع لرحمة ​السلطات الأميركية​ التي تملك السلطة القانونية لمنع دخول أي شركة أو دولة إلى الاقتصاد العالمي في حال وجود خلاف بينها وبين الولايات المتحدة ، وقد شكلت تجربة الالغاء الاحادي للاتفاق النووي الايراني من جانب ترامب وما سببه من خسائر اوروبية لصفقات بمليارت الدولارات ، الحافز الاكبر للاتحاد الاوروبي كي يتحرك .

 

وقد عقدت المفوضية الأوروبية في كانون الاول 2018 اجتماعا هاما لدرس  خطتها لتقليل هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي وتعزيز دور اليورو خاصة في تعاملات الطاقة.

يومها قال مفوض الشؤون الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي بيار موسكوفيتشي في مؤتمر صحافي في ​بروكسل​ “وسط الجو الحالي من الشكوك — النزاعات التجارية، والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على دول أخرى — يبحث المشاركون في السوق عن بديل”.

اضاف: تعتبر إيران من أحدث الأمثلة التي تتسبب بالاحباط للاتحاد الأوروبي، إذ أن الشركات التي تختار التجارة أو الاستثمار في الجمهورية الإسلامية رغم ​العقوبات الأميركية​ المفروضة عليها تعرض نفسها لعقوبات من واشنطن.

وصرح نائب ​رئيس المفوضية الأوروبية​ فلاديس دومبروفسكيس أن العملة الأوروبية الموحدة التي ولدت في الأول من كانون الثاني 1999 “يجب أن تعكس الثقل السياسي والاقتصادي والمالي لمنطقة اليورو”.

ومنذ ذلك الوقت أجرت المفوضية الاوربية مشاورات مع الجهات اللاعبة في السوق، خاصة بشأن واردات النفط والغاز وغيرها من السلع التي يهيمن عليها الدولار، على ان تعلن هذا الصيف (2019 ) نتائج  هذه الاستشارات وتبحث الخيارات البديلة.

باكورة الاجراءات

وقد جاء الاعلان عن الاتفاق مع روسيا الاسبوع الماضي كباكورة الاجراءات البديلة ، اذ يزمع الطرفان على التخلي تدريجيا عن الدولار لصالح اليورو في تعاملات تجارة الطاقة ، فأوروبا تسدد حاليا 80% من واردات الطاقة بالعملة الأمريكية، فاذا تحقق هذا التخلي تثبت ​اوروبا​ ان اليورو يجب أن يصبح الوجه والأداة لأوروبا الجديدة ذات السيادة.

وكما في النفط والغاز كذلك في قطاع النقل الجوي حيث تباع ​الطائرات​ بشكل منهجي بالدولار حتى لو صنعتها شركة ​إيرباص​ الأوروبية، وترغب بروكسل في انهاء هذا الواقع باتخاذ الخطوات اللازمة لتقوية دور اليورو.

تركة الحرب

يبدو الظرف ملائما للدول المتمردة على الوصاية الاميركية وعملتها على الاقتصاد العالمي . هذه الوصاية ليست ابنة اليوم ، وهي بالتأكيد ليست نتيجة حتمية للتوازنات الاقتصادية والمالية على المستوى الدولي . لان الوقائع تثبت ان ​الاقتصاد الاميركي​ اليوم هو المدين الاكبر في العالم ، وان الدول التي تتعرض للتعسف الاميركي هي ، وللمفارقة ، الدائن الاكبر له ، اي ان الاقتصاد الاميركي يعمل على وقود الآخرين .

الحقيقة ان الهيمنة الاميركية سياسية بالدرجة الاولى ، بعد ان كانت في مرحلة ما سياسية – اقتصادية –مالية ، فقد خرجت ​الولايات المتحدة الاميركية​ كالمنتصر الاكبر من الحرب العالمية الثانية ، ولم تكن اوروبا يومها سوى كومة من الركام تحتاج الى اعادة بناء دولها واقتصاداتها من جديد ، اما الرابح الآخر في تلك الحرب فكان الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي الذي انعزل تماما عن بقية العالم .

تلت الحرب العالمية الثانية حرب من نوع آخر هي ​الحرب الباردة​ ، تواجه فيها الغرب بقيادة  الولايات المتحدة الاميركية ، والشرق بقيادة الاتحاد السوفياتي ، وانتهت بانهيار الاخير مع معسكره ، وبتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، فكانت الوصاية السياسية الكاملة على العالم

منذ ذلك الوقت حصلت تطورات كبيرة ، اهمها ​الوحدة الاوروبية​ ، والانبعاث الروسي ، والنهوض الصيني ، والاسيوي عموما.

هذه التكتلات الثلاثة قادرة اليوم على تحدي الوصاية الاميركية ، وهي تفعل معا، وتحقق نجاحات جزئية ولكن هامة ، ليس من باب الحروب والنزاعات العسكرية ، بل من باب الاقتصاد وهي قادرة على فعل المزيد، وما هي الا سنوات قليلة وسنرى بداية نهاية الدولار كعملة مهيمنة الى الاقتصاد العالمي.

بواسطةعلي حمود
مصدرالنشرة الاقتصادية
المادة السابقةخاص “الجمهورية”
المقالة القادمةتصنيف مصر كأفضل وجهة سياحية لأثرياء العالم​​​​​​​