بدأت تتكشف خيوط حبكة الضبط الغريب لسعر صرف الدولار عند 89500 ليرة منذ الصيف الماضي، بعد تقلبات حادة قطعت الأنفاس شهدها ذلك السعر منذ تشرين 2019 حتى ربيع 2023.
صحيح أنّ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري قام بخطوات فنية نقدية على هذا الصعيد وساعده في ذلك من باستطاعته ضبط المضاربين، لكن السر الكبير الذي كتمه منصوري، كشفه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من حيث لا يدري في كلمته رداً على النواب في نهاية مناقشة موازنة 2024.
قال ميقاتي كلاماً خطيراً لم يتوقف عنده رئيس مجلس النواب نبيه بري، لأنه يعرف أنه من منصوري، كما لم يلفت ذلك الكلام أي نائب في البرلمان، لأن تفكيرهم في مكان آخر. قال ما حرفيته: «لدينا في الحساب 36 في مصرف لبنان 100 ألف مليار ليرة «كاش» و150 مليون دولار (فرش) و850 مليون لولار»، وأضاف: «لن نصرف لأننا لم نضبط الفساد بعد. واستقرار سعر الصرف سببه سحب السيولة الذي قام به مصرف لبنان».
ما سبق شكله «جميل»، لكن باطنه كارثي. فلتثبيت سعر الصرف هذه المرة آثار جانبية تؤدي إلى الانكماش والتقشف اللذين يدفع ثمنهما الاقتصاد والبنى التحتية ومرافق الخدمة العامة والموظفون العامون.
مجموع الأرقام التي تناولها ميقاتي يساوي 1.4 مليار دولار، مبالغ «محبوسة» نسبياً في الحساب 36 فيما البلاد تعاني الأمرّين.
فالدولة تجبي بوتيرة صاعدة بقوة الصاروخ بعد اتفاق خاص على الآليات بين منصوري ووزير المال يوسف خليل، ولا تنفق الحكومة إلا بالقطارة الشحيحة، لأنّ منصوري فرض ضبطاً للسيولة ولا يسمح بصرفها إلا وفق ميزان الحفاظ على سعر الصرف أولاً.
لا يريد منصوري زيادة الكتلة النقدية في الأسواق كي لا يتسرب فائضها إلى المضاربة وشراء الدولار فيرتفع سعره مقابل الليرة، ولا عزاء للبنى التحتية المتهالكة حتى لو غرقت الطرقات بالأمطار، ولا للموظفين المضربين بحثاً عن إنصاف يبدو بعيد المنال لحفظ كرامة عيشهم، ولا لجيش ينتظر 100 دولار من قطر أو أميركا، ولا لوزارة الشؤون الاجتماعية التي تقترض من البنك الدولي لإعالة فقراء معدمين!
والأنكى في ما أضافه ميقاتي بنبرة التفاخر، قوله: «أدرنا الدولة بـ800 مليون دولار فقط في 2022 بعدما كانت تدار بـ 17 ملياراً». ويضرب مثلاً مؤسسة عامة كانت تنفق مليوناً و50 ألف دولار، واستطاعت الحكومة (بتقشفها القاسي) إدارتها بـ ٢٨ ألف دولار فقط، مدعياً «أن الانتاجية لم تتأثر»! فاذا كان ما قاله صحيحاً فتلك طامة واذا كان غير صحيح فالطامة أكبر.
إذاً، صار واضحاً أن الحكومة تزيد الايرادات بأضعاف مضاعفة ولا يقابل ذلك إنفاق عام مناسب. فقد أغفلت الموازنة وتعديلاتها الشهيرة الكثير من النفقات مثل مستحقات للضمان الاجتماعي ومستحقات للعراق وتعويضات للمتضررين من الحرب على الحدود الجنوبية، فضلاً عن نفقات للقوى الأمنية والتعليم والصحة تأتي تغطيتها من الدول المانحة. مثلما يكفي النظر في مراسيم قبول الهبات بعد كل جلسة لمجلس الوزراء للتأكد من أن حكومة لبنان «تشحد» قرطاسية وطابعات وأنظمة طاقة شمسية وأثاث مكاتب، وسفاراتها في الخارج في حاجة إلى من يطلي جدرانها المتهالكة ويطعم موظفيها أحياناً.
تبقى الإشارة إلى أن استقرار سعر الصرف أمر جيد نسبياً على أكثر من صعيد، لكن مقابل ثمن. إذ يمكن القول إنّ الحاكم السابق كان انفلاشياً في تدليع الدولة وتلبية كل رغباتها وصولاً إلى التعثر والإفلاس، أما الحاكم الحالي فهو انكماشي يخنق الدولة حتى انقطاع النفس تقريباً.