شهران ونصف تقريباً على أزمة البنزين في زحلة وانقلبت المعادلة: الناس تنام في سياراتها على أبواب المحطة، وتصطف قبل شروق الشمس في حبال طويلة منذ ما بعد منتصف الليل، طمعاً بأن لا تهدر يوماً آخر في صف الإنتظار الذي لا ينتهي بساعات الدوام العادية، فيما خراطيم البنزين دخلت في حالة نوم سريري، وأصحابها يحرصون على عدم إزعاجها تحت الشراشف التي تخبر عن دخولها في سبات عميق. أسابيع من أزمة البنزين كانت كافية إما لـ”تدجين” أبناء المنطقة حتى يقبلوا بطوابير إنتظارهم الطويلة أمراً لا مفر منه، أو ليبتدعوا حيلاً تجنّبهم هذا الكأس، فتؤمّن لهم وصولاً اسهل للمادة، ولو على حساب غيرهم ومقدراتهم. على قاعدة “هين مالك ولا تهين حالك” تتأمّن المادة بسهولة لمن لا يزال يجد إمتيازاً في بضعة دولارات نجح بتحريرها من المصارف. واحدة من محاولات ملء خزانات السيارات بالبنزين تجري تحديداً في الفترة المسائية، وتقضي بتوجّه صاحب السيارة الى المحطة، ليتلقّى معاملة إستثنائية تسمح له بتخطّي “حبل” السيارات الممتدّ على مسافات طويلة، وكل ذلك بناء لإتصال مسبق مع صاحب المحطة، سيكون كافياً لإزالة كل الحواجز التي تحول دون بلوغ خراطيمها فوراً.
هذه ليست خدمة درجة أولى في تأمين مادة البنزين، إنما هناك من وجد اليها سبيلاً عبر خدمة “الدليفري”. في هذه الحالة تصل المادة موضّبة الى باب المنزل، بالرغم من التحذيرات من ملء الغالونات وتخزينها في أماكن السكن. طبعا الخدمتان ليستا مجّانيتين، وهما من الأساليب التي تجعل أصحاب المحطات يطمعون بأسعار السوق السوداء التي بدأت مادة البنزين تشقّ طريقها إليها، مع مؤشرات واضحة لإزدهار هذا السوق كلما طالت الأزمة واستمرت معاناة الناس على محطات الوقود.
إزاء تصاعد الإعتراضات على الفوضى التي تسببت بها طوابير السيارات المنتظرة في الطرقات الداخلية أو على الأوتوسترادات، وارتفاع الصرخة تحديداً من أصحاب المصالح المتضررة الى جانب محطات الوقود، إبتُدعت حلول آنية لإبقاء منافذ المؤسسات مفتوحة، واتخذت قرارات في محافظة البقاع لتحديد مواعيد فتح بعض المحطات بغير أوقات ذروة السيارات على الطرقات. وفي هذه الحالة أيضاً، وجد البعض حيلاً لتأمين أسبقيته على الآخرين في تأمين المادة، من خلال ركن سيارته داخل المحطة أو على مدخلها فوراً، بإنتظار موعد دوامها المحدّد بقرار رسمي.
هي إذاً من أساليب التحايل على واقع مرير، يتوهم اللبنانيون أنها “شطارة”، بينما هي في الواقع تعكس مساوئ قدرة اللبناني على التأقلم مع كل الظروف. هذا التأقلم الذي تعوّل عليه الطبقة السياسية في كبت غضب الناس، ومنع إنفجاره بوجهها “ثورة” فعلية، حتى لو كان الثمن تدهوراً “نوعيا” في حياة اللبنانيين، وتراجع طموحاتهم الى حدّ تأمين تنكة بنزين أو علبة دواء يومياً.