ما تثيره خطة الإنقاذ الحكومية من جدل وما تطرحه من أسئلة، يفوق بكثير الأجوبة التي كان يفترض بها ان تقدمها. إحدى هذه الاشكاليات، التي بدأت تطفو على سطح مياه الاقتصاد الهائجة، سيناريو هجين يقضي بتخفيض أعداد المصارف إلى النصف أو أقل، وانشاء 5 مصارف جديدة في المقابل على أنقاضها.
بين الترحيب السلطوي المفرط، والرفض المصرفي المطلق لمثل هذه الفرضية، تتنوع الآراء وتختلف وجهات النظر، ليبقى المشترك واحداً: جهل عام بطبيعة هذه البنوك الخمسة الجديدة، ماهية حجمها ودورها، كيفية تأمين رساميلها، وتحديد الجهة المالكة وحجم حصة الدولة فيها.
“منذ انفجار الازمة الاقتصادية لم تتوقف الماكينة الاعلامية للحكومة عن القاء التهم بحق المصارف، مسوقةً انتهاء دورها بعد تضييع أموال المودعين وضرورة الدخول في مرحلة جديدة من العمل”. يعلق أحد المصادر المصرفية على نية الدولة انشاء 5 مصارف جديدة، ويضيف “لكنهم يتغاضون عن السبب الاساسي الذي أوصلنا الى هذه الحالة. فالفساد المستشري والهدر وتغييب الاصلاحات منعهم من ارجاع الاموال المستدانة، ووضع المصارف أمام خيارات أحلاها مر: إما زيادة الرساميل واتخاذ المؤونات على الديون، وإما الاندماج وإما الانسحاب من السوق. الامر الذي سيخفض عددها بشكل تلقائي. من دون “تمريكات” الخطة”.
5 مصارف متخصّصة
لا تبين الخطة الحكومية، وتحديداً بنسختها الأساسية الموضوعة باللغة الانكليزية، ان كان المطلوب تصفية كل المصارف العاملة وانشاء 5 مصارف جديدة مكانها، على ان تكون مصارف متخصصة، أم ان المطلوب انشاء المصارف إلى جانب القائمة حالياً. وبرأي المستشار المالي غسان شماس فان “كلمة متخصصة لا تعني بالضرورة مصارف استثمار “investment bank”، بل من الممكن ان تكون مصارف تجارية متخصصة في القروض السكنية، الصناعية أو الزراعية. وذلك على غرار “crédit agricol” المتخصص في دعم الزراعة في فرنسا، أو مصرف “البلديات” في الاردن، وغيرها الكثير من الامثلة حول العالم”.
أما بالنسبة الى العدد والحديث عن تقسيم طائفي للمصارف الجديدة فهو غير صحيح. وبرأي شماس فانه “من المفروض في حال انشائها ان تكون مصارف توفير متخصصة، وخصوصاً في ما يتعلق بالاسكان ودعم القطاعات الانتاجية. بحيث لا تقوم هذه المصارف على دعم الدولة وتلقي المساعدة منها، بل على استخدام اموال المودعين لاقراض القطاعات الانتاجية والخدماتية. وعليه فان المصارف الجديدة في حال أبصرت النور يجب تقسيمها على الاسكان، الزراعة، الصناعة، التجارة والتوفير العام. وبرأي شماس فان “الاصرار على انشاء مصارف جديدة يجب ان يكون بهذا الاتجاه، وليس عبر استمرار العمل التقليدي الذي درجت عليه المصارف اللبنانية، أي استقبال الودائع واقراضها للدولة مقابل فوائد مرتفعة. فهذا النموذج عفّى عليه الزمن ولم يعد صالحاً”.
غياب الثقة بالموجود
إنشاء مصارف جديدة سواء كانت 5 أو أكثر يقوم على فرضية اساسية، وهي غياب الثقة بالمصارف الموجودة. وبحسب المصرفي دان قزي فان “جذب المستثمرين في المستقبل يتطلب برأي واضعي الخطة وجود أسماء مصارف جديدة ومغايرة عن تلك الموجودة حالياً، خصوصاً بعدما أصبحت اصولها مسمومة”.
من دون الحكم المسبق ان كانت مقاربة الحكومة صحيحة أم خاطئة، ونيتها صافية، فان التحديات أمام انشاء مصارف جديدة كبيرة. ليس اقلها أهمية تخلف لبنان عن سداد ديونه الخارجية، التعثر المالي، تقلبات سعر الصرف وغياب البنى التحتية… وهي عوامل طاردة للمستثمرين. لكن في المقابل فان رغبة المتمولين اللبنانيين تحديداً، في امتلاك مصرف خاص بهم ستعوض هذه السلبية”، يقول قزي ويستدل على ذلك من تجربة بيع مصرف “ستاندرد أند تشارترد” الذي كان يرأس مجلس ادارته، وكيف فاقت العروض المقدمة المتوقع بكثير. في هذا الصدد ينقل عن حاكم مصرف لبنان قوله ذات مرة ان “الرأسمالي اللبناني يملك الشقة الفاخرة والفيلا والشاليه واليخت والسيارات الفارهة… ولا ينقصه لإكمال مجموعته الخاصة إلا البنك”.
مستقبل المصارف
بغض النظر عن البرستيج اللبناني، فان القطاع المصرفي المدعّم بالاقتصاد الليبرالي الحر والسرية المصرفية لعب دوراً محورياً في ازدهار لبنان والكثير من الدول العربية المجاورة، عندما كان التوجه واضحاً وصريحاً. وعليه فان “الرؤية المستقبلية للبنان والدور المفروض ان يلعبه سيحددان مستقبل القطاع وحجمه”، يقول رئيس مجلس ادارة “بيمو” بنك رياض عبجي. ومن وجهة نظره “فان كان الهدف الابقاء على لبنان مركزاً مالياً فان الحاجة لن تكون إلى 40 مصرفاً أو أقل بل لأكثر من 60 أو حتى 80 مصرفاً. أما اذا كان الهدف ضرب هذه السيرورة التاريخية والتحول الى غير انماط اقتصادية، مما لا نمتلك امكانياتها أو نبرع بها، فمن الممكن ان نكتفي بـ 10 مصارف. لكن السؤال هل ننجح في المكان الآخر ونبني إقتصاداً أفضل من الذي كان؟”.
الاسئلة المطروحة اليوم اكثر بكثير من الاجوبة المقدمة أو حتى الموجودة. ولكن اخطر هذه الاسئلة هو عن موانع ادخال نظام المحاصصة والمقاسمة على عمل هذه المصارف خصوصاً إذا دخلت الدولة معها شريكة برأسمال بالليرة المطبوعة، وتحويلها إلى ما يشبه كل المؤسسات العامة الموجودة فنكون “لا بالشام عيّدنا ولا بدمر لحقنا العيد”.