عقد النواب البريطانيون، أمس، اجتماعاتهم البرلمانية بعد أن أصدرت المحكمة العليا في البلاد قرارها التاريخي باعتبار خطوة تعليق أعمال البرلمان أمراً «غير شرعي».
وكانت أعلى سلطة قضائية في البلاد اعتبرت القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة المحافظ، بوريس جونسون، بتعليق اجتماعات البرلمان «غير قانوني»، ما مثل ضربة أثرت على سلطة جونسون وتسبب في تصاعد الأصوات المطالبة بـ»استقالته».
ومع عودة البرلمان بات رئيس الوزراء خاضعاً لـ»ضغوط أكبر» إذ بات بالإمكان إصدار مذكرة لـ»حجب الثقة» أو «تبني قوانين لإرغامه على القيام بأشياء محددة»، كذاك القانون الذي صوّت عليه النواب والذي يرغمه على الطلب من بروكسل «تأجيل بريكست ثلاثة أشهر»، في حال لم يحصل على اتفاق للخروج بحلول 19 تشرين الأول بعد القمة الأوروبية، في حين يرفض جونسون رفضاً قاطعاً طلب تأجيل «بريكست».
وكان جونسون قد قال أول أمس، في نيويورك إنه «يحترم قرار المحكمة العليا حتى وإن لم يكن موافقاً عليه»، مؤكداً أن قرار المحكمة لن يثنيه على «المضي قدماً وإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن بحلول 31 تشرين الأول».
وإذا ما عدنا إلى بدايات إعلان «بريكست» الذي أجري في الـ 23 من حزيران 2016 وفق استفتاء عام حول بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه، وحينها فاز أنصار الخروج بنسبة 52 مقابل 48 طالبوا ببقاء بريطانيا في الاتحاد، وشارك في الاستفتاء نحو 30 مليون مواطن، صوّت 17,4 مليون منهم لصالح الخروج.
ومنذ ذلك الوقت ومجلس العموم البريطاني يخوض صراعاً طويلاً مع الحكومة البريطانية إن كانت برئاسة تيريزا ماي، أومع من خلفها بوريس جونسون، وفي ظل احتدام الصراع القائم بين المؤيدين والرافضين لبريكست، يقف الكثيرون عاجزين عن فهم طبيعة هذا الصراع، وما الذي يعنيه، ولماذا كل هذه الضجّة المصاحبة له؟..
في البداية، لم تكن فكرة ماي قيادة هذا الملف، بل ورثته عن سابقها «ديفيد كاميرون» رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي قاد حملة «الخروج من الاتحاد الأوروبي» بإقناعه للبريطانيين بأن الخروج من هذا الاتحاد سيحمي بلادهم من موجات الهجرة التي انهالت بشكل مخيف على القارة العجوز والتي تحمل في ثناياها أخطار أمنية إرهابية، ليجعل منها «شمّاعة» روّج من خلالها مع من أيّده الفكرة لإقناع الناخبين للتصويت بـ»نعم» للانسحاب..
ولم ينسى كاميرون حينها من التذكير بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبأمجادها التي يمكن إحياؤها في حال الخروج من الاتحاد بأنها ستستعيد قرارها وسيادتها الاقتصادية، ويمكن أن تشكل صوتاً بمفردها بعيداً عن الضرائب والجمارك الأوروبية وأنها ستستقطب رؤوس الأموال العالمية للاستثمار فيها..
وأكملت رئيسة الوزراء تيريزا ماي ما بدأه كاميرون عقب التصويت بتفعيل المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، وبدء عملية الخروج رسمياً بما فيها بدء التفاوض حول اتفاق للخروج، وكان من المقرر أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 آذار 2019، لكن الموعد أجِّل مرتين، وأكمل بعدها بوريس جونسون مسيرتها التي لاقت الكثير من العراقيل ليصبح من المقرر أن يدخل القرار حيز التنفيذ في 31 تشرين الأول.
في الأثناء، خلق البرلمان الذي بات لا يمثل الشعب البريطاني، الذي قال كلمته من قبل.. خلق أزمة ضرورة الخروج باتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، وبات هناك نقطة خلاف دستورية قائمة ومعضلة تجعل موقف جونسون محفوفاً بالمخاطر ولربما تجعل مستقبله السياسي على حافة الهاوية..
وفي الوقت الذي يحاول فيه توني بلير، ومن خلفه البنوك ورجال الأعمال الذين تجمعهم مصالحهم مع الاتحاد الأوروبي، عدم تنفيذ قرار الخروج، رغم تصويت الشعب عليه.. فـ»المصالح هنا هي من تحكم».. يبقى موضوع الحدود الإيرلندية السبب الرئيسي وراء عدم الوصول إلى اتفاق.. وتقول تقارير إعلامية بأن «السبب الرئيسي وراء رفض العديد من النواب المحافظين ونواب الحزب الاتحادي الديمقراطي الحزب البروتستانتي الرئيسي في إيرلندا الشمالية الذي يدعم حكومة المحافظين هو موضوع الترتيبات التي يتضمنها الاتفاق حول الحدود بين الجمهورية الإيرلندية ومقاطعة إيرلندا الشمالية».
وحالياً، لا توجد أي نقاط حدود أو حواجز أو أيّ إجراءات لتفتيش المسافرين والبضائع، التي تعبر الحدود بين جزئي الجزيرة الإيرلندية، ويضمن اتفاق الخروج الذي أبرمته حكومة ماي مع الاتحاد الأوروبي ضمانات باستمرار هذا الوضع حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد.
وتدخل هذه الإجراءات حيز التنفيذ فقط في حال إخفاق الطرفين في التوصل بسرعة إلى اتفاق شامل للتجارة الحرة، ومن شأنها إبقاء بريطانيا ضمن وحدة الجمارك الأوروبية، وإبقاء إيرلندا الشمالية ضمن بعض من شروط السوق الأوروبية الموحدة.
ويقول منتقدون إن «منح إيرلندا الشمالية وضعاً مختلفاً قد يهدّد كيان المملكة المتحدة، ويخشون من أن تكتسب هذه الإجراءات صفة الديمومة»، ولكن مؤيدي الإجراءات التي يطلق عليها Backstop يقولون إنها «ضرورية لضمان السلم في إيرلندا الشمالية». فيما يفرض خروجها بطريقة أوتوماتيكية «إعادة حدود صلبة بين الأيرلنديين»، وهذا ما يهدّد بحرب أهلية جديدة، كتلك التي حدثت في القرن الماضي ودمرت الكثير من البشر..
في المحصّلة، سيكون على بريطانيا إذا ما خرجت دون اتفاق الرضوخ للقانون الأوروبي وإنشاء الحدود الجمركية لحماية السوق الأوروبية الموحّدة.. وهذه الحدود الجمركية ضرورية وحيوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، ولن يتراجع عنها ولن يقدمها هدية الطلاق..
وفي قناعة دول الاتحاد، لا يمكن لبريطانيا الخروج بدون هذه الحدود، فالهدف الأسمى من هذه الحدود والتي وضعتها دول الاتحاد مجتمعة هو «حماية المصانع، والقدرة الشرائية، والسوق الأوروبي الموحد»، من أيّ بضائع قد تأتيها من الصين أو أميركا أو كندا، أو من أي فضاءات اقتصادية أخرى.. فيما تسعى بريطانيا لأخذ كل شيء وعدم التنازل عن شيء.. وهو ما لا يمكن القبول به.. فالزواج الأوروبي قائم على شروط وتنازلات جماعية، ولا يمكن حدوث الطلاق بسهولة في هذا البيت الذي بدأت بذور أفكاره منذ خمسينات القرن الماضي وكان تأسيسه بناء على اتفاقية «ماستريخت» عام 1992، ليضم الآن 28 دولة.
ومن أهم مبادئه نقل صلاحيات الدول إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، وتظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة. ولهذا الاتحاد نشاطات عديدة، أهمها كونه سوق موحد ذو عملة واحدة هي اليورو الذي تبنت استخدامه 19 دولة من أصل الـ28 الأعضاء، كما له سياسة زراعية مشتركة وسياسة صيد بحري موحدة. وكل هذه الميزات تخلت عنها بريطانيا في مقابل الحصول على بعض الامتيازات التي تغنى بها كاميرون أولها إيجاد حرية القرار الاقتصادي.. غافلاً عن خسارة 27 سوق كانت رافد رئيسي للسوق البريطانية.. مفضلاً عليها ربما «السوق الأميركية»!
والآن يجد جونسون نفسه محاصراً، فإذا قبل بهذه الحدود الجمركية قد يصعب عليه مسؤولية أو طموح التوقيع على اتفاق تبادل حر مع الولايات المتحدة، حيث قالت الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب أكثر من مرة لجونسون إن «بريطانيا إذا ظلت داخل الاتحاد الجمركي وأبقت على شبكة الأمان الأيرلندية، فإن ذلك لن يكون عنصراً مشجعاً لتوقيع أميركا لاتفاق تبادل حر عملاق وطموح»، لذا لا يستطيع جونسون توقيع هذا الاتفاق ويبقى رهينة الاتحاد الأوروبي..
ويقول المساندون لفكرة بريكست إنه «إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باتفاق فإنها ستبقى في الاتحاد الجمركي، وفي نفس الوقت ستفقد قدرتها على التأثير الفعلي في القرارات الاقتصادية والاستراتيجية التي يمكن لبروكسيل أن تأخذها في هذا القرار».
وفي هذه النقطة فكرتان مختلفتان، كما أنّ هناك قانونين متضادان، القانون الرسمي صوّت عليه البرلمان للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو يعني أن «الخروج بات قانونياً، سواء تم باتفاق أو دون»، ثم خروج البرلمان مرة أخرى بـ»قانون مضاد يلزم الخروج من الاتحاد باتفاق مسبق».
لكن الحكومة البريطانية اعترفت بنفسها عبر تقارير نشرت في وسائل الإعلام الرسمية بأن «انعكاسات الخروج سيكون كارثي على الاقتصاد البريطاني»، وأنه سيتسبب في «نقصان بعض البضائع المهمة وذات الأولوية في السوق البريطاني»، وقد يواجه في بداية الأمر «ضربة موجعة للنظام المالي، والركائز الاقتصادية للمجتمع».
فيما ينظر الاتحاد لبريكست باعتباره «قضية خاسرة على جميع الأصعدة» في بريطانيا.. تزيد نسبة التوقعات بأن يسبب بريكست هزة اقتصادية يكون لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد الأوروبي، ونسبة ركود كبيرة في الاقتصاد العالمي..
في المقابل تريد المفوضية الأوروبية إلى جانب ألمانيا وفرنسا كأكبر بلدين في الاتحاد، منع «بريكست» بأيّ طريقة، كما تريد تقييد الأيادي البريطانية إلى أقصى درجة وجعلها «عبرة» لأي بلد آخر يريد الخروج، وبالتالي عدم تكرار المحاولة أومواجة مثل السيناريو البريطاني مرّة أخرى..
ويعود السبب وراء ذلك الإجراء الأوروبي المتشدّد لأن هذه المنظمة «الاتحاد الأوروبي» هي عبارة عن مشروع أيديولوجي سياسي، تضع كل الإمكانات الاقتصادية والمالية لخدمة مشروعها الفيدرالي للوحدة الأوروبية، على عكس العقلية البريطانية التجارية، وامبراطوريتها الرأسمالية، والتي تضع السياسة في خدمة الاقتصاد..
وبالمحصلة نجد أنّ الاتحاد قد افتعل مشكلة وهمية تتمثل في «أزمة الحدود مع أيرلندا الشمالية والجنوبية»، للضغط على بريطانيا وبالمقابل فتح الباب أو الذي لا يزال مفتوحاً وفق تصريحات القادة الأوروبيين لعودة بريطانيا عن خيارها الذي لن تعي عواقبه سوى عقب خسارة ما كانت تملكه من امتيازات لتجد نفسها كما «جحا وجرّة العسل» التي كان يحلم بها وبضربة عصا خسر كل شيء.. فتأمّل رعاك الله