يُصِرّ النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، الذي يتولّى حالياً إدارة المصرف، على عدم إقراض الحكومة أي دولار قبل الحصول على غطاء تشريعي صادر بقانون من مجلس النواب. وهذا ما وَلَّدَ جدلاً بين رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولا يبدو أنه سينتهي في الوقت القريب. فالبرلمان لا يمكنه التشريع من دون وجود مشروع قانون يُحال إليه من الحكومة التي لا تملك مقوِّمات إنتاج هذا المشروع. فكيف سينتهي هذا الجدل الذي تُستَحضَر وسطه رواتب موظفي القطاع العام كذريعة لتسريع الإجازة بالاقتراض؟.
منصوري يفصل بين عهدين
ما فعله منصوري حتّى الآن يؤسس عملياً للبدء بوضع حدّ للسياسات التي انتهجها الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة، بالشراكة مع السلطة السياسية التي تتحاشى اليوم تبنّي فكرة الاقتراض من المركزي بالدولار بلا ضمانات واضحة. وبذلك، يكون منصوري قد أوقَفَ استنزاف الاحتياطي مؤقتاً، ريثما تجد السلطة الحل المناسب، والذي يبدو أنه بعيد نظراً لتمسُّك برّي بعدم تجاوز القانون وابتداع تشريع غير مقدَّم من مجلس الوزراء.
قانوناً، برّي محق. لكن ميقاتي يستعجل تأمين التمويل لسداد متوجّبات الدولة التي يدير هو سلطتها التنفيذية المسؤولة عن الملفات المالية. أما منصوري، فلديه مساحة لأخذ قسط من الراحة بعد تصويبه الأمور، بأن أعاد تحميل السلطة مسؤولياتها عن تأمين التمويل.
حتمية الاقتراض من الداخل أو الخارج
السؤال الأبرز بعد اجتياز الحاجز القانوني والاحتكام لآلية وضع وإقرار مشاريع القوانين، هو كيفية تسديد القرض للمركزي بحال إقراره.
تُبيِّن الموازنات العامة المتعاقبة “عجزاً مستداماً” مقوَّماً بالليرة، والدولة لا تملك مداخيل بالدولار تمكِّنها من توفير ادّخار يشكِّل ضمانة للمُقرِضين سواء في الداخل أو الخارج. ما يعني “عدم وجود ضمانة بردّ قيمة القرض”، وفق ما تؤكّده مصادر مالية.
ترجّح المصادر في حديث لـ”المدن”، أن تقترح السلطة الاقتراض من الخارج لتفادي المسّ بالاحتياطي الإلزامي وإثارة سخط المودعين. كما يمكن للسلطة أن تقدِّم فكرة احتمال الاقتراض الخارجي، نفسها، كضمانة للمركزي للحصول على قرض منه. أي كمن يغطّي قرضاً بقرضٍ آخر. لكن هذا الاقتراح محاصر أيضاً بطلب الضمانات، لأن “التعهُّد للمركزي بتأمين مصادر تمويل لاحقة وبفترات محدّدة، يستوجب التوصُّل إلى اتفاق مبدئي مع جهة مانحة توافق على الإقراض. ولا يلغي الاتفاق وجوب إقرار الإجازة بالاقتراض بقانون من مجلس النواب” فالحصول على ضمانات مبدئية لا يجيز تخطّي القانون. على أن الجهات المانحة ليست بعيدة من مطلب نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة، إجراء إصلاحات أهمها الكابيتال كونترول وإعادة النظر بموازنة العام 2023 التي تتابع الحكومة درسها. (راجع المدن).
إلاّ أن الضمانات التي تطلبها الجهات المانحة لا تقف عند إقرار القوانين الداخلية، بل تتعداها إلى ربط السداد ببيع أملاك الدولة في حال التخلّف عن الدفع، سيّما وأن لبنان يملك سمعة سيئة لجهة تهرّبه من سداد متوجّباته لأصحابها. وتقول المصادر أن هذ المأزق “قد يكون مدخلاً لإقرار الإصلاحات لأن السلطة بحاجة للأموال”. وبالتالي، فإن عجز السلطة يحتِّم الاقتراض، لكن مسألة الجهة المقرِضة والضمانات التي تطلبها، هي العقبة.
التذرّع برواتب موظفي الدولة
تضع السلطة رواتب موظفي الدولة في واجهة مسعاها للاقتراض. علماً أن تلك الرواتب تشكّل بين 80 إلى 90 مليون دولار شهرياً من أصل 200 مليون تحتاجها لتمويل استحقاقات أخرى كدعم استيراد الأدوية السرطانية واستيراد القمح وسداد مستحقات متعهّدي الأشغال العامة مع الوزارات والمؤسسات العامة مثل الكهرباء وأوجيرو والمطار وغيرها، إلى جانب تمويل دفع فوائد القروض بالعملات الأجنبية.
ومع أن وزير المالية يوسف الخليل أكّد أن “رواتب القطاع العام مؤمَّنة”، ما يوحي بالثقة وعدم وجود عقبات أمام إقرار القرض، وهو ما دفع الخليل إلى القول بأنه “ستعقد إجتماعات جدية مع نواب حاكم مصرف لبنان هذا الأسبوع للوصول إلى صيغة حول موضوع إقراض الحكومة”، إلاّ أن ذريعة الرواتب لم تسقط كلياً، لأن ضمان استدامتها هو الأساس.
لنزع فتيل الرواتب من يد السلطة، ترى المصادر أنه “يمكن دفع رواتب الموظفين بالليرة مباشرة، بعد زيادتها وعدم ربط دفعها بتحويلها إلى دولار بسعر منصة صيرفة”. ولا تتخوّف المصادر من تضخّم الكتلة النقدية بالليرة بسبب زيادة الرواتب لأن “الموظفين يعيدون صرف المبالغ التي حصلوا عليها بالدولار عبر صيرفة. لكن بدل إعطائهم الدولار وصرفه بالليرة عند الصرافين، وبكمية ليرات إضافية بعد تزويدهم بالليرة من مصرف لبنان، يقوم المركزي بتأمين الرواتب بالليرة فوراً”.
تذهب المصادر أعمق في تفسيرها الركض نحو الاقتراض. فالحاجة الفعلية “ليست للرواتب، بل لتمويل المتضرّرين من توقّف منصة صيرفة، أي كبار التجّار وشركات المتعهّدين وكبار المصرفيين والمرتبطين بهم، وهو ما خلقت لأجله المنصة في السابق.
الاحتمالات ضيِّقة لأن الحاجة للنقد الأجنبي باتت ملِحة في ظل عجز الدولة عن تأمين مداخيل كافية بالدولار. فيبقى الاقتراض هو السبيل الأسرع الذي على ميقاتي تجرُّع كأسه، فيما برّي ومنصوري ينتظران.