خلال الأسبوع المقبل، ستكون البلاد على موعد مع زيارة جديدة لبعثة صندوق النقد الدولي، “لتقييم تقدّم لبنان في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع الصندوق”. الخلاصة الوحيدة التي ستعود بها بعثة الصندوق في ختام الزيارة المقبلة، هي أنّ الأمور مازالت “على حطّة يدك” كما يقول المثل العامّي. ففي مطلع الربع الأخير من السنة الراهنة، لم تحرز البلاد أي تقدّم يُذكر على مستوى الخطوات الإصلاحيّة المطلوبة، مقارنة بأحوالها في أواخر الربع الأوّل من العام، حين اختتمت بعثة الصندوق مشاورات المادّة الرابعة في بيروت خلال شهر آذار الماضي. نصف سنّة مرّت بين الزيارتين، والبلاد على حالها، تغرّد خارج نظام العالم المالي، وكأن الزمن متوقّف هنا.
في واقع الأمر، سيبدو الأمر محبطًا ومملًا بالنسبة لبعثة الصندوق. فالجمود القاتل الذي حكم مجريات الأمور بين آذار وأيلول 2023، على المستوى المالي، هو نفسه الجمود الذي حال دون تنفيذ أي شرط من شروط التفاهم المبدئي المعقود مع الصندوق، منذ نيسان 2022، أي منذ أكثر من سنة وخمسة أشهر. تلك الشروط غير المنفّذة، التي كان يفترض أن تقود مسار التصحيح المالي، للخروج من حالة الانهيار، هي أبسط الخطوات البديهيّة التي بدأ الصندوق بالمطالبة بها منذ الربع الأوّل من العام 2020، أي منذ بدء المشاورات التقنيّة بين الصندوق والدولة اللبنانيّة بعد حصول الأزمة. هذا بالذات ما جعل الأزمة “كسادًا متعمدًا” إذًا، كما وصفها البنك الدولي.
الإصلاحات المعلّقة منذ نيسان 2022
خريطة الطريق، التي ستسأل عنها بعثة الصندوق الأسبوع المقبل، ترتبط بالشروط المسبقة الثمانية، التي حددها التفاهم على مستوى الموظفين بين لبنان والصندوق في نيسان 2022، والتي كان من المفترض أن ينفّذها لبنان ليدخل في تفاهم نهائي مع الصندوق.
ستسأل البعثة عن مشروع قانون الكابيتال كونترول، لتجده معلّقًا كبند على جدول أعمال الهيئة العامّة للمجلس، وبصيغة لا تتلاءم أساسًا مع المتطلّبات التي حددها الصندوق، بعدما تم تشويه صيغة مشروع القانون الذي أرسلته الحكومة للمجلس. أمّا مسار توحيد أسعار الصرف، الذي كان يفترض أن يخدمه هذا القانون، فمازال معلقًا أيضًا، بعدما جرى تعليق أعمال منصّة صيرفة، التي لم تحقق هذا الهدف أصلًا، من دون ولادة بديل جدّي. البديل المحتمل، أي منصّة “بلومبيرغ” التي يجري الحديث عنها يوم، ما زالت حتّى اللحظة مشروع نظري لم تتضح معالمه بعد بشكل جدّي، بانتظار التعاقد مع الشركة المشغّلة ووضع الآليّات التنفيذيّة ومن ثم تجربتها.
بالنسبة إلى مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومشروع قانون إعادة التوازن للانتظام المالي، ما زالت الأمور أسيرة تقاذف المسؤوليّات بين الحكومة ولجنة المال والموازنة، تمامًا كما كان الحال قبل ستّة أشهر. لكن الأخطر بالنسبة إلى بعثة الصندوق، سيكون مشاريع القوانين الهجينة التي تقدّمت بها كتل وازنة في المجلس، ككتلتي حركة أمل والقوّات اللبنانيّة، للالتفاف على جوهر هذه القوانين، واستبدال مبدأ إعادة الهيكة بمبدأ تحميل المال العام كلفة تعويم القطاع المصرفي. وخلط الأوراق داخل المجلس على هذا النحو، بات يُنذر اليوم بالانقلاب على المبادئ الأساسيّة لتوزيع الخسائر المصرفيّة، كما حددها التفاهم الأولي مع الصندوق، ما سيهدد بالإطاحة بهذا التفاهم.
بالنسبة إلى سائر الإصلاحات، لم يختلف الأمر: تدقيق ميزانيّات المصارف التجاريّة ما زال مجمّدًا، بحجّة غياب التمويل. والحكومة لم تبدأ أساسًا بإعداد مسودّة استراتيجيّة إعادة هيكلة الدين العام، بل لم تبدأ أساسًا بالتفاوض الجدّي مع الدائنين. أمّا التعديلات الإضافيّة المطلوبة في قانون سريّة المصارف، فما زالت خارج جدول أعمال المجلس النيابي، بانتظار تمريرها إلى جانب التشريعات المتعلّقة بإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
التصحيح المالي المتعثّر
في الجانب المرتبط بالتصحيح المالي، نصّ التفاهم المبدئي مع صندوق النقد على إقرار قانون موازنة العام 2022 في المجلس النيابي، لبدء استعادة الانتظام في الماليّة العامّة. لكن كما هو معلوم، تأخّر إقرار الميزانيّة يومها حتّى نهاية أيلول 2022، ما جعلها غير ذات فائدة على مستوى ضبط الإنفاق والجباية في تلك السنة، كما تم إفراغ الميزانيّة من معظم الخطوات الإصلاحيّة المطلوبة منها. ولهذا السبب، طلب الصندوق لاحقًا غض النظر على هذا البند في التفاهم، مقابل اشتراط البحث في موازنة العام 2023، لتحقيق هدف استعادة الانتظام في الماليّة العامّة.
مجددًا، تكرّر السيناريو مرّة جديدة هذه السنة، إذ رغم دخول البلاد في الربع الأخير من العام، لم يتم إقرار موازنة 2023 في المجلس النيابي، بل لم تبدأ لجنة المال والموازنة حتّى بدارسة هذه الموازنة، تمهيدًا لعرضها أمام اللجان المشتركة والهيئة العامّة للمجلس. وفي الوقت الراهن، وفي ظل صعوبة تأمين النصاب لأي جلسة تشريعيّة خلال فترة الفراغ الرئاسي، قد يتعذّر على المجلس النيابي حتّى الالتئام لمناقشة وإقرار موازنة العام الحالي، خصوصًا إذا كنّا نتحدّث عن موازنة غير شعبيّة ستفرض إجراءات ضريبيّة جديدة. ببساطة، من المستبعد أن يتمكّن لبنان من تحقيق شرط إقرار موازنة 2023، قبل نهاية السنة، تمامًا كما حصل مع موازنة العام الماضي.
هذا الوضع الشائك والبائس، قد يدفع الصندوق –مجددًا- لغض النظر عن الشرط المتعلّق بموازنة 2023، مقابل بدء البحث عن الإصلاحات المنشودة في موازنة 2024. إلا أنّ الإشكاليّة الأساسيّة تكمن في غياب الطابع الإصلاحي عن مشروع قانون موازنة 2024، الذي أعدته الحكومة مؤخرًا وأرسلته إلى المجلس النيابي، وتحديدًا من جهة نسبة العجز المرتفعة، ونسبة احتياطي الموازنة المرتفعة من إجمالي النفقات. أمّا الأهم، فهو أنّ مشروع قانون الموازنة استند إلى سعر صرف منصّة صيرفة، للاقتراب من مبدأ توحيد أسعار الصرف، في حين أنّ السياسة النقديّة التي يعتمدها المصرف المركزي تخلّت عن هذه المنصّة، ولم تستحدث بعد البديل الذي يمكن أن تستند إليه الموازنة لتحديد سعر الصرف المعتمد للجباية.
لكل هذه الأسباب، لن تحمل زيارة بعثة الصندوق جديدًا، باستثناء تذكير اللبنانيين بأن خريطة الطريق للخروج من الأزمة متاحة، ومعروفة المعالم، في حين أنّ ما يحول دون سلوك درب التعافي المالي ليس سوى مصالح محليّة ضيّقة، تتعارض مع الإصلاحات المطلوبة من لبنان. وفي حال عدم تخطّي هذه المصالح، سيمضي لبنان في أزمة ماليّة “قد لا تنتهي أبدًا”، تمامًا كما حذّر تقرير مشاورات البعثة الرابعة لصندوق النقد في وقت سابق هذه السنة.