رغم تطمينات وزير الاتصالات، جوني القرم، بأن وزارته لن تسمح بأي توقف لخدمة الإنترنت المتوفرة عبر الخطوط الثابتة، فإن البلبلة التي أثارها تصريح مدير عام أوجيرو، عماد كريدية، حول تداعيات التأخير بتحويل مستحقات أوجيرو من موازنة 2024، لا تزال سارية، وتزعزع الثقة المهتزة أساساً بقدرة لبنان، في ظل ظروف الحرب القائمة، على تأمين الحد الأدنى من الإستقرار المطلوب في قطاع الاتصالات، بما يضمن عدم استمرار التواصل الداخلي المطلوب بحده الأدنى.
أموال أوجيرو
منذ أيام دق كريدية ناقوس الخطر عبر تغريدة على موقع “إكس”، متحدثاً عن تراكم أعطال تعجز أوجيرو عن إصلاحها، بسبب نفاد الأموال وعدم تسلم الهيئة مستحقاتها المقرة من الموازنة. هذه التغريدة أخذت حيزاً كبيراً من النقاشات طيلة الأيام الماضية، تدرّج خلالها موقف وزير الاتصالات وصولاً إلى الإعلان عن إمكانية لجوء الوزارة في أسوأ الحالات إلى “إستعارة” أموال من شركتي الخليوي تاتش وألفا، لتغطية نفقات الصيانة المطلوبة في شبكة أوجيرو، إلى حين الافراج عن مستحقات أوجيرو من الموازنة العامة.
ومع أن ما أثير من ضجة حول المستحقات غير المسددة شكل -وفقاً لعضو لجنة الاتصالات النيابية النائب سعيد الأسمر- محاولة ضغط على وزارة المالية للإفراج عنها، إلا أنه رفض في المقابل الانتقائية التي تلجأ إليها وزارة المالية في تحويل المستحقات إلى مؤسسات حيوية مثل أوجيرو، محملاً وزارة المالية مسوؤلية أي خلل يقع بقطاع الإتصالات وصيانة المعدات، ويمكن أن يؤدي إلى انقطاع الانترنت.
الخوف من العزلة
ما تؤكده مصادر معنية عن مساعي لحلحلة مرتقبة، لا يلغي الواقع المأزوم الذي يعيشه القطاع، والذي تفاقمه ظروف الحرب الدائرة في الجنوب، والخشية المستمرة من تداعياتها التي قد تفرض عزلة شاملة أو جزئية عن شبكة الاتصالات.
هذا في وقت يراقب فيه اللبنانيون بأعين الحسد جدّية السلطات الإسرائيلية بوضع الخطط التي تؤمن تواصلها مع العالم أيا كانت الظروف، ولا سيما مساعيها لاستخدام 5000 قمر صناعي منخفض المدار من “ستارلينك“، من أجل “ضمان تدفق مستقر للبيانات والمعلومات للسلطات الحكومية في أثناء حالات الطوارئ”، وفقاً لما نقلته وكالة رويترز عن صحيفة “كالكاليست” الإسرائيلية.
للأمانة، سبقت وزارة الاتصالات اللبنانية إسرائيل بـ”نكش” خدمة ستارلينك وإمكانية توفيرها على الأراضي اللبنانية منذ بداية الحرب على غزة، مضمّنة إياها بالخطة (PLAN B) التي وضعها وزير الاتصالات جوني القرم على طاولة مجلس الوزراء في 13 تشرين الثاني من العام 2023، حين طالب موافقة الحكومة المستقيلة على تقديم خدمة الإنترنت بشكل مؤقت عبر STARLINK. إلا أن ما تبين لاحقاً أن هذه الخطة لم تكن تستهدف إتاحة خدمة الإنترنت لعموم الناس، كما يفترض، لا بل هي مجرد طلب ترخيص يتيح استخدام 150 جهاز تلقّي، حصلت عليها الوزارة كهبة، متجاهلة أن خطة الحرب للاتصالات لا يمكن أن تختزل بتأمين التواصل مع مستشفى وصليب أحمر وحتى وزارة دفاع واتصالات ورئاسة حكومة، بل تفترض تأمين الاتصالات للناس. وهذا بالتأكيد لا يحصل بـ150 جهازاً، ما أثار شبهات حول سعي الوزارة لتحويل الهبة، مدخلاً للشراكة في تشغيل خدمة الإنترنت، ومن خارج الأصول والأنظمة التي يجب احترامها.
انطلاقاً مما ذكر، تصبح المقارنة بين لجوء إسرائيل لتطوير أنظمة اتصالاتها بما تقتضيه حاجة الحرب، و”طبخة” وزارة الاتصالات اللبنانية لتهريب رخص استخدام ستارلينك من خارج الأصول المتبعة، في غير محلها. خصوصاً أن وزارة الاتصالات لم تقدم أي معلومة إضافية تعينها في مجابهة الإتهامات الموجهة إليها. وهي أيضاً لم تبرأ ذمتها، أقله من ناحية الإلتزام بما أوصتها به الحكومة لجهة “إعداد الدراسات اللازمة لتنظيم الإطار التجاري لعمل ستارلينك في لبنان وفقاً للأصول، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية المختصة.”
أداء وزارة الاتصالات “السيء”
لا يختلف أداء وزارة الاتصالات في هذا الملف طبعاً عن مجمل أدائها السائد منذ بدء الأزمة اللبنانية، والذي يتميز بغزارة الخدمات المقترحة من قبلها، سواء عبر أوجيرو أو شركتي الإتصال ألفا وتاتش، ولكن من دون أن تبذل ما يكفي من الجهد في تقديم مشاريعها بشفافية، تضمن اجتيازها الامتحان الأوّل لدى الجهات الرقابية، سواء في مجلس النواب، أو في هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة أو حتى في الحكومة نفسها. وعليه، تعاطت وزارة الاتصالات مع خيبتها بالنسبة لملف ستارلينك، كما عرضته على مجلس الوزراء، مثلما كان تعاطيها مع ملفات أخرى طويت من قبلها على سلوك موحد من تهميش كل خدمة لا تنفذ وفقاً لرغبات الوزارة أو مستشاريها. ليتوقف التداول بستارلينك من ضمن خطة الطوارئ أو من خارجها. وهذا ما خلّف انطباعات لدى مصادر خبيرة في القطاع، بأن “المسار الذي سلكه هذا الملف يشكل محاولة للالتفاف على ظرف الحرب، لإدخال ستارلينك إلى سوق الإنترنت بطرق ملتوية”.
هل من خطة طوارئ؟
في تصريح أخير عبر أحد الوكالات لوزير الاتصالات حول خطة الطوارئ، رفض الكشف عن تفاصيل إضافية، “حتى لا يكشف أسرارها أمام العدو” كما قال. هذا في وقت تشير المعلومات إلى اقتصار الأمر على إجراءات تدخلية سريعة تقوم بها كل من شركتي الاتصالات تاتش وألفا بالإضافة إلى أوجيرو، لمنع الانقطاع التام للاتصالات، من ضمن الإمكانيات المتوفرة لوجيستياً ومادياً.
بينما يستمر النقاش في لجنة الاتصالات النيابية حول عوامل الاستقرار المطلوب توفيرها، والبدائل التي تتطلب جهوزية تامة تضمن عدم انقطاع الإنترنت عن الناس. وقد يكون أحد هذه البدائل خدمة الـvsat المرخصة افي لبنان منذ العام 2007، وتعمل عبر أقمار إقليمية، وقد وردت كأحد الحلول في سؤال وجهه النائب ياسين ياسين إلى القرم، ويشرحه خبير في القطاع بكونه “يسمح عبر تمديدات خاصة إلى أكثر من سنترال باستخدام شبكة البنى التحتية للاتصالات في لبنان لإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من المشتركين”.
شكل سؤال ياسين عاملاً أساسياً في فرملة تهريبة “الستارلينك”، على رغم التوافق الذي برز فيه مع أخرين ولا سيما النائب سعيد الأسمر، حول الحاجة لتأمين خدمات الإنترنت البديلة وخصوصاً بظل الواقع المتردي والمخاطر المحدقة بالخدمة المقدمة عبر هيئتها الوطنية.
ومن هنا يشدد الأسمر على ضرورة “الإسراع في بت موضوع الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، خصوصاً أن لا أحد يستطيع الوقوف بوجه التطور والتقدم، وبالتالي الأصح أن يكون ذلك تحت إشراف الدولة اللبنانية وأعينها ولا تدخل بطريقة مهربة وتستخدم في عمليات التجسّس أو الإرهاب أو غيره”. هو ما يؤكد عليه أيضاً مصدر خبير بالاتصالات لـ”المدن”، مشترطاً أن يتسم أي مشروع يقدم بالشفافية الكافية للإجابة على سلسلة أسئلة يطرحها طلب إدخال أي خدمة جديدة.
صفقة ستارلينك
لم يقدم القرم خلال النقاشات التي دارت معه في لجنة الاتصالات أو في رده على أسئلة النواب بالمقابل، إجابات تبدد الشكوك، وخصوصاً بالنسبة لطرحه التجريبي حول خدمة ستارلينك. بل أقرن كل إجابة بانتهاء فترة الثلاثة أشهر التجريبية للتجهبزات التي حصلت عليها الوزارة كهبة، والتي أقرن تشغيلها بـ”إيجاد الصيغة النهائية الأفضل التي توافق عليها الأجهزة الأمنية ووزارة الإتصالات وشركة ستارلينك باختبارها”.
وبما أن ستارلينك سقطت من خطة الطوارئ التي اقترحها الوزير، أقفل الملف على غموض، من دون تقديم أية إجابات حول مرحلة ما بعد الفترة التجريبية التي حددها بثلاثة أشهر، ومن كان سيشغل هذه الخدمة؟ وبأي كلفة؟ وبالتالي ما هو حجم الإيرادات المتوقعة منها؟ وما هي المعايير والقواعد التنظيمية التي سيتم اعتمادها عند اصدار التراخيص، ومن سيتولى مراقبة وضبط عمل هذه الأنظمة في السماح بانتشار هذه الأجهزة على الأراضي اللبنانية، ولضمان مواءمتها معايير الأمان وعدم الإختراق.
بعد مرور ثمانية أشهر على اندلاع الحرب في غزة وما خلفته من تداعيات على لبنان، يعتقد البعض أن خريطة طريق شفافة لاستخدام الخدمة، كان يمكن أن تجعل من ستارلينك بديلاً ممكناً للأفراد والمؤسسات التي هي بأمس الحاجة للحفاظ على أعمالها، بظل انعدام الاستثمارات الرسمية بالقطاع. بل ربما لو قامت الحكومة بواجبها في إجراء مفاوضات واضحة مع ستارلينك، لتوصلنا اليوم إلى إنشاء شركة مملوكة من قبلها على الأراضي اللبنانية، تمنحها الدولة رخصة ISP كأي من مزودي الخدمة، وتستفيد من إيراداتها المحققة على الأراضي اللبنانية، من ضمن النظم الطبيعية “ecosystem” المحددة لذلك.
صرف النظر عن ستارلينك
وطبعاً هذا الأمر لم يحدث. بل يربط القرم في أحاديث صحافية توقف البحث بطرح ستارلينك بالموافقات الأمنية المطلوبة له، بصرف النظر عن هذه العقبات التي يسهل تذليلها وفقاً لمصدر خبير، عبر إلزام الشركة لدى مباشرتها العمل، بالقوانين اللبنانية لناحية ربط الداتا بخوادم، تصب لدى الأجهزة المعنية بملاحقة الجرائم والإرهاب وغيره، مع التقيد بكافة القوانين سواء الدولية أو تلك المتعلقة بشركة ستارلينك والدولة اللبنانية.
ولا يؤيد المصدر في المقابل مقولة ان ستارلينك ربما تكون منافس لشبكة أوجيرو، فالسعر مختلف والمستخدمون مختلفون. بينما المنافسة في النوعية ربما تحفز الدولة على الاستثمار في إيراداتها لتحسين شبكتها. وهو ما يؤيده أيضاً الأسمر آخذاً بالاعتبار أن الحلول البديلة والتواصل عبر الأقمار الاصطناعية تدخل أموالاً للدولة، ولا تشكل منافساً للإنترنت عبر شركتي الخليوي أو أوجيرو، لكونها خدمة تحاكي مجموعات مغايرة من المستفيدين.
ويكشف الأسمر في المقابل “عن محاولات مستمرة لتذليل العقبات بوجه مثل هذه المشاريع المطلوبة، سواء من ناحية الأجهزة الأمنية أو من حيث الحاجة لإبعاد السياسة عن موضوع الخدمات، ولا سيما بالنسبة لمن يتذرعون بالحرب الدائرة وعلاقة الشركات بأميركا وإسرائيل”، معتبراً أن “اقتصادنا وخدماتنا بأغلبيتها تعتمد على موارد أجنبية غربية، ونحن لا يمكن أن نعزل أنفسنا بذريعة الدعم لقضايانا”.