أبدى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، حرصه التام على إبقاء اسمه “نظيفاً” خلال إدارته مصرف لبنان في مرحلة دقيقة وحسّاسة ومليئة بالألغام السياسية والنقدية. فقبل نهاية ولاية الحاكم السابق رياض سلامة، لوَّحَ منصوري مع نظرائه نواب الحاكم الآخرين، بالاستقالة من مناصبهم في حال عدم تقديم الغطاء التشريعي لاقتراض السلطة من المصرف المركزي، وما لم يُصر إلى اعتماد الإصلاحات المطلوبة، كمدخل للخروج من الأزمة.
جرى تخطّي الاستقالة وتسلَّم منصوري مهامه. لكنه بقي ثابتاً على موقفه بعدم صرف أي دولار بدون غطاء قانوني. وكذلك، رَفَضَ أخيراً تحويل مبالغ مالية بالليرة لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، إلى الدولار، ولم يرضخ للابتزاز بالعتمة، ما دفعَ برئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى اللجوء لحقوق السحب الخاصة لتأمين الدولارات لصالح شركة برايم ساوث، المشغِّلة لمعملي دير عمار والزهراني.
وفي محطّة ثالثة، جدَّدَ منصوري التزامه بعدم استعمال الاحتياطي الإلزامي، إلاّ لتغطية التزامات محدّدة. وذلك في سياق عرضه أرصدة مصرف لبنان.
ووسط هذا المسار المغاير لما سلكه سلامة، هل يُكمِل منصوري الطريق ويكشف ما لم تستطع شركة ألفاريز أند مارسال كشفه في تدقيقها الجنائي؟ أم أن منصوري يراوغ ضمن حدود مرسومة سلفاً؟
تقرير ألفاريز غير كافٍ
تعترف شركة ألفاريز أند مارسال بأن تقريرها الذي خلصت إليه بعد عملية التدقيق الجنائي، لم يكن كافياً. فهو يفتقر إلى الكثير من المعلومات التي لم تستطع الشركة الوصول إليها نتيجة عدم تجاوب موظفي مصرف لبنان معها وفتح الأوراق المطلوبة أمامها. ما جعل التقرير قاصراً، وذهبَ بعض الخبراء الاقتصاديين ورجال سياسة إلى اعتباره تقريراً غير مهني، لأنه لم يستند إلى أدلة كافية.
ولا يندرج اعتبار التقرير غير كافٍ أو غير مهني، في سياق الدفاع عن رياض سلامة أو التقليل من نتائج ارتكاباته، بل يبقى في سياق تصحيح مسار كشف الحقائق بصورة مهنية وقانونية صحيحة. وهذا الموقف عبَّرَ عنه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، وهو الذي طالبَ سلامة بالاستقالة. فرأى الشامي أنه “لا يمكن اعتبار التدقيق الجنائي منجزاً”.
ما قامت به ألفاريز أند مارسال هو محاولة لإنجاز مهمّة شابتها عراقيل عدّة، وكادت أن تطيح بالعقد الموقَّع بين الشركة والدولة اللبنانية، وتالياً بالقدرة على إجراء التدقيق. وما يهمّ الشركة من هذا التدقيق، ليس خلاصته وما يحويه من معلومات أو النتائج المترتّبة عنها، بل هو المبلغ المالي الذي ستقبضه كبدل أتعاب إنجاز المهمة.
أما النتائج، فوزنها يُقاس بمدى تأثيرها في الداخل اللبناني. لكن على صعيد مهني، فإن “أعراف التدقيق الدولي، توجِب الحصول على معلومات أكثر مما حصلت عليه ألفاريز. كما أن أبسط عملية تدقيق حسابات، تحتاج إلى نسبة أكبر من المعطيات التي وجدتها ألفاريز. وبالتالي، فإن الشركة لم تُجرِ تدقيقاً علمياً صحيحاً يشبه ما تقوم به دول وشركات على مستوى العالم”، وفق ما تقوله مصادر على صلة بمصرف لبنان.
إعادة تكليف أم تغيير مسار؟
اعتراف ألفاريز أند مارسال أن معظم أبواب مصرف لبنان كانت موصدة أمامها، وأن أغلب موظفي المصرف المركزي لم يتعاونوا معها، يعني بشكل أو بآخر، ضرورة إجراء تدقيق أكثر عمقاً. كما أن الشركة خلصت إلى أن المعلومات والأرقام التي عرضتها، قد تتغيَّر في حال اكتشاف معطيات جديدة. ولذلك، أوصت بـ”الحفاظ على الرقابة على مصرف لبنان، وبإجراء إشراف وتدقيق برلماني، وإيجاد آلية مساءَلة قوية تطلب من المركزي تقديم حساب للقرارات المتَّخذة أثناء تنفيذ مسؤولياته”.
الغوص أعمق في التدقيق لكشف المزيد من الحقائق، يعني احتمالاً من اثنين، إما تكليف شركة أو إجراء تدقيق داخلي بالاعتماد على ما لدى المركزي نفسه من إدارات وموظفين. في الاحتمال الأوّل، يمكن إعادة تكليف ألفاريز أو التعاقد مع شركة أخرى. ويؤيّد الشامي بقاء ألفاريز شرط “إتاحة جميع البيانات المطلوبة، وتمديد فترة التغطية إلى الأعوام ما بين 2021 و2023”. بمعنى آخر، يريد الشامي إعادة التعاقد مع الشركة نفسها، شرط فتح ملفات إضافية أمامها، وتوسيع فترة السنوات المطلوب التدقيق في العمليات التي جرت خلالها، وصولاً إلى العام 2023، وعدم اقتصار التدقيق على الفترة بين عاميّ 2015 و2020.
لا توافق المصادر، خلال حديث لـ”المدن”، على إعادة تكليف ألفاريز، بل تفضّل إجراء تدقيق داخلي في مصرف لبنان. وحسب المصادر فإن “وسيم منصوري يملك الإمكانيات التي تخوّله فتح كافة الملفات. وهذا أمر سهل، إذ يحق له الاطّلاع على كل العمليات والحسابات التي يريدها”.
وتقول المصادر أن “منصوري بدأ عهده برفض الانجرار خلف القرارات السياسية، وهو أمر مشجِّع ويجب أن يُستَكمَل بفتح الملفات داخل مصرف لبنان، لأن ما تم صرفه خلال عقود لا يقف عند تحويلات شركة فوري أو الهندسات المالية، بل يذهب إلى مشاريع فساد لها علاقة ببواخر الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان وملف النفايات وغير ذلك من المشاريع”.
ويرتبط تأييد إجراء تدقيق داخلي بمسألة “سيادة الدولة”. فالتدقيق الجنائي الذي تجريه شركات خارجية، يعني فتح ملفات حسّاسة لا يُعرَف لأي جهة قد تُسَرَّب. ولذلك “هناك إدارة جديدة في مصرف لبنان، يمكنها الحفاظ على سيادة الدولة وكشف الحقائق”.
في حال قرَّرَ منصوري إجراء تدقيق داخلي، فإنه بذلك يغيِّر مسار التدقيق الجنائي الذي أرادته السلطة السياسية، التي كانت تعلم بأنه سيخلص إلى تأكيد ارتكابات رياض سلامة بعد تصويرها وكأنها معزولة عن سياق عام تقاطعت فيه مصالح سلامة مع السلطة السياسية والمصرفية.
حدود اللعبة السياسية
كشفُ خبايا الارتكابات في مصرف لبنان يوصِل إلى كبار السياسيين والمصرفيين وما بينهما. وهو أمر غير وارد حالياً، نظراً لغياب القرار الدولي بإجراء تغيير جذري في هذا النظام وتنحية أركانه. ولذلك، يأتي التدقيق الجنائي محدود النتائج، وتأتي العقوبات الأميركية والمحاكمات الأوروبية محصورة برياض سلامة وشركائه. ومع ذلك، يحظى منصوري بدعم أميركي يحصّنه أمام بعض أركان المنظومة السياسية، لكنه دعم لا تتّسع دائرته راهناً لكشف كل الملفات. فهل يحصل ذلك مستقبلاً؟ هو سؤال مفتوح ومرتبط بموازين القوى الدولية.