مع الانهيار الذي سبّبته الأزمة المالية، توقفت بلدية بيروت عن إجراء مناقصات وانتقلت إلى الاستعانة بالسلف المالية لتسيير أعمالها، ما أسّس لـ«مافيا» جديدة من المحظيين حلّت محل مافيات المناقصات، واستفادت من السلف لمراكمة أرباح غير مشروعة على حساب المال العام
منذ نحو خمس سنوات، توقفت بلدية بيروت عن إجراء مناقصات بعدما انفضّ عنها كبار المتعهدين بسبب تدهور سعر صرف الليرة وانهيار ميزانية البلدية، فلم تعد هذه الأخيرة صيداً سميناً بالنسبة إليهم. هكذا، انتهى زمن المناقصات وبدأ زمن إعطاء السلف المالية، واستمر زمن «الشفط». فقد أصبحت السلف بنداً دائماً على جدول أعمال المجلس البلدي، ووصل الأمر إلى حدّ أن المجلس يجتمع أحياناً لإقرارها فقط. ويوماً بعد آخر، تحوّل هذا الإجراء بالنسبة إلى معظم رؤساء الدوائر من المحظيين، بمثابة «دجاجة تبيض ذهباً»، حتى باتت الأسماء نفسها تكرر الطلب نفسه كل جلستين أو ثلاث على أبعد تقدير، وصار يكفي أن يُشار إلى السلفة كي يُعرف من وراءها.وفي هذا السياق، هناك سلف تتكرّر بشكل دائم تشمل «إصلاح أعطال طارئة» من أعمال بنى تحتية وفوقية وأرصفة وجدران داعمة وتنظيف مصافٍ وريغارات وأعمال تزفيت حفر في الشوارع العامة لزوم دائرة الأشغال بالأمانة، وأعمال التشحيل والري والتعشيب في حرج بيروت ووسطيات العاصمة، وإصلاح وصيانة آليات دائرة المرأب، و«طلبات» المازوت والبنزين لفوجَي الإطفاء والحرس. وحتى ماكينة فتح المجارير صارت لها سلفها «حتى فاقت سلف تصليحها ثمنها»، كما يشير أحد أعضاء المجلس البلدي متهكماً.
هكذا شكّلت السلف المالية «باب رزق» وخصوصاً بعدما تحوّلت من استثناء إلى قاعدة. فميزة السلف أنها تجدّد تلقائياً خلال العام، وبالإمكان تكرارها كلما ارتأى المتعهّد ذلك للوصول إلى المبلغ المرصود ضمن بنود الموازنة. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك بند يتعلّق بتنظيف المجاري بقيمة 150 مليار ليرة «يستطبع المتعهّد أن يطلب تكرار السلفة خلال العام حتى يصل إلى المبلغ المرصود ضمن الموازنة»! ولأن كل سلفة تتخطّى الـ 500 مليون ليرة تستوجب موافقة مسبقة من ديوان المحاسبة، يعمد هؤلاء إلى تجزئة العقود للتهرب من رقابة الديوان، كما حصل في بند تشحيل الأشجار على الطرقات وأشجار حرج بيروت والذي كلّف 4 مليارات ليرة قُسّمت على أربع سلف.
هذه الفوضى دفعت المراقب العام إلى الطلب من وزير الداخلية ومن المعنيين في البلدية العودة إلى المناقصات في ظل استقرار أسعار الصرف لتفادي تحايل الآليات المعمول بها على الأصول القانونية، من دون أي استجابة. كما خرجت شكاوى من البلدية نفسها. عضو مجلس بلدية بيروت المحامي أنطوان سرياني أشار إلى ابتزاز يمارسه الموظفون المحظيّون في البلدية، الذين «لم يكفهم ابتزاز المواطنين في معاملاتهم وتغطية المخالفات والتلاعب بالرسوم مقابل الرشى، فانتقلوا إلى ابتزاز المجلس البلدي بطلبات السلف المالية». ولفت إلى مليارات يصرفها هؤلاء «ويضطر المجلس البلدي إلى الموافقة على بعضها لتسيير الأعمال في المدينة تحت ضغط الابتزاز بوقف أي أعمال في المدينة». وعزا «هدر مال بلدية بيروت من قبل مافيا الدوائر البلدية مستمر» إلى «غياب الدوائر الرقابية وعدم المحاسبة ممّن يفترض به أن يحاسب». وهنا، بيت القصيد. صحيح أن هؤلاء يتحملون جزءاً وافراً من المسؤولية، إلا أنهم ليسوا وحدهم أعضاء «المافيا». فبحسب القانون، أي عمل يجري يفترض أن تكون هناك لجنة استلام وظيفتها الأساسية وضع تقرير بتلك الأعمال، ومن ثم مراقبتها وإعداد محضر استلام يبيّن ما إذا كان العمل المنفّذ مطابقاً أو لا. غير أن ما يجري اليوم، بحسب المصادر، مشاركة لجان الاستلام في هدر المال العام، إذ باتت لجنة الاستلام تعدّ التقرير وتوقّعه «على بياض» من دون إرسال مراقب للتأكد من إتمام الأعمال. هكذا، تذهب السلفة «سرقة» في أحيان كثيرة لقاء أعمال وهمية. والنتيجة؟ ظهور «النعمة» فجأة على بعض الموظفين، مثل «رئيس دائرة بنى خلال الأزمة قصراً في مسقط رأسه، رغم أن راتبه لا يتجاوز 300 دولار، وآخرين يقتنون أحدث السيارات أو باتوا من أصحاب العقارات ومحظيين لا يكادون يعودون من رحلة سياحية مع عائلاتهم حتى يغادروا مجدداً»!
وكما في زمن المناقصات التي انتفع منها متعهدون خرجوا «أباطرة» من البلدية، ثمة من استساغ اليوم السلف وانتفع منها. وبما أنّ لكل حقبة متعهديها، فإن هذا زمن خ. زيدان الذي يعمل «بالحفر، بالتنظيف، بالمجارير، بالتشحيل، بالتشجير… بكل شيء»، و«له ناسه في المجلس البلدي، ولذلك كل سلفة ستعود بالنفع عليه وعليهم». بتعبير آخر، «بيقبض وبقبّض». وكما كان دفتر الشروط سابقاً يصاغ على مقاس أحد المتعهّدين، صار بديهياً أيضاً اليوم أن «تركب» السلفة في أي عمل عليه، وإذا ما أعطيت لأحدٍ آخر، فهي «في النهاية ستعود له انطلاقاً من أنه هو من يتقدم بها تحت غطاء أسماء أشخاص آخرين أو شركات أخرى».
برغم هذا الواقع، لا يمكن الفكاك بسهولة من السلف، وفق محافظ مدينة بيروت، القاضي مروان عبود، لأن وقف السلف يعني وقف الأعمال في البلدية، وبسبب استحالة العودة الى المناقصات التي تحتاج إلى مبالغ مالية طائلة غير متوفرة اليوم. لذلك، ورغم إدراك عبود لهذا الواقع، إلا أن العمل بالسلف هو «أهون الشرين» بالنسبة إليه لأن استكمال العمل يفترض التغاضي في بعض الأحيان. وهذا التغاضي هو ما دفع بالبعض إلى تشبيه عبود بخوري الضيعة «الذي يعرف كل شيء عن أبناء الضيعة ومعصياتهم، لكنه لا يملك سوى الصلاة لهم لكي يتوبوا يوماً ما».