تخرج أزمة لبنان الاقتصادية والمالية والمعيشية سريعاً عن نطاق السيطرة، مدفوعة بانهيار العملة الذي أدى إلى تدمير الشركات وإغراق العائلات في حالة من العوز، وفقاً لتقرير أعدّته شبكة “بلومبيرغ” الأميركية.
وبينما يلقي السياسيون والمصرفيون اللوم على وسائل الإعلام، فقدت الليرة اللبنانية نحو 60٪ من قيمتها في السوق السوداء، منذ الشهر الماضي، مهدّدة بدفع الاقتصاد إلى دوامة تضخم مفرطة.
يأتي ذلك فيما ترتفع أسعار المواد الغذائية بسرعة كبيرة لدرجة أنّ الجيش اللبناني سحب اللحوم من قوائم مأكولات العسكر، الأسبوع الماضي، كما وافقت الحكومة على رفع سعر ربطة (كيس) الخبز المسطّح (العربي) بمقدار الثلث.
في خضم كل ذلك، ينتشر انقطاع التيار الكهربائي مع نفاد الوقود من حين لآخر. وفي مواجهة خسائر مدمّرة، يغلق تجار التجزئة المشهورون أبواب محالّهم ريثما تستقر العملة، الأمر الذي يزيد من تفاقم البطالة التي من المتوقع أن تدفع نصف السكان إلى براثن الفقر هذا العام.
ورُبطت موجة من حالات الانتحار، الأسبوع الماضي، بالوضع الاقتصادي المُزري، حيث أطلق رجل النار على نفسه في أحد شوارع بيروت المُزدحمة، تاركاً رسالة انتحار تشير إلى أغنية شهيرة عن الفقر كتبت خلال الحرب الأهلية 1975-1990 لزياد الرحباني بعنوان “أنا مش كافر، بس الجوع كافر… بس الفقر كافر”.
وتتزايد وتيرة الانهيار الاقتصادي في لبنان، منذ اندلاع حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول، في مواجهة عقود من الفساد وسوء إدارة النُخب السياسية التي أفرغت خزينة الدولة لدرجة أن الحكومة الجديدة اضطرت، في مارس/آذار الماضي، إلى إعلان تخلف البلد عن سداد ديونه الخارجية للمرة الأولى في تاريخ لبنان.
كما طلبت الحكومة من “صندوق النقد الدولي” المساعدة في إصلاح أوضاعها المالية واستعادة الثقة، لكن المحادثات تعثرت بسبب خلافات بين السياسيين والمصرفيين حول حجم الخسائر ومن يجب عليه أن يدفع، إلى أن استقال اثنان من مفاوضي وزارة المالية، أحدهما مدير عام وزارة المالية آلان بيفاني، بسبب هذه الانقسامات، وسط دعوات من صندوق النقد للبنانيين من أجل العمل سوياً وتوحيد موقفهم التفاوضي معه.
ولم تثمر الجهود المبذولة والتدابير المتخذة من السلطات للجم تدهور الليرة، بما في ذلك إطلاق “مصرف لبنان” المركزي منصة تسعير جديدة لمحلات الصيرفة. وقال أحد الصرّافين إنّ الناس خائفة وتخزّن الدولارات ولا تستطيع أن ترى قاعاً لهبوط الليرة ما لم يستعد البلد الثقة المفقودة.
النائب المعارض سامي الجميل، قال: “لقد وصلنا إلى نقطة كنا نخشاها أكثر من غيرها… لا شيء سيوقف الانهيار، وهو الآن حاصل على جميع المستويات”.
ومع اعتماد لبنان على استيراد كل شيء، من القهوة إلى السيارات، فإنّ فوضى العملة لها تأثير كارثي على القوة الشرائية، إذ ارتفعت الأسعار بما يزيد عن 56٪، في مايو/ أيار الماضي، مقارنة بالعام الفائت، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنحو 190٪، وفقاً للأرقام الرسمية.
ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام أعلى بكثير، في يونيو/ حزيران الفائت، عند صدور الإحصاءات الرسمية، وهو شهر اكتسب فيه انخفاض الليرة زخماً هائلاً عندما تجاوز الدولار الأميركي في السوق السوداء 10 آلاف ليرة، قبل أن يتراجع قليلاً هذا الأسبوع.
“شراء الأساسيات فقط”
ومع ذلك، لا يزال سعر الصرف الرسمي ثابتاً على 1.507.5 ليرات للدولار في مكانه، لكنه يُستخدم بشكل فعّال فقط في عمليات استيراد القمح والوقود والأدوية. كما تدعم الدولة الأطعمة الأساسية من خلال سعر صرف يبلغ 3900 ليرة.
لكن لا يمكن لمن لديهم ودائع بالدولار تحويل أموالهم إلى الخارج، ولا يمكنهم سوى سحب مبالغ محدودة بالليرة اللبنانية بسعر صرف يبلغ معدّله 3850 ليرة.
ومع أن قيمة الحد الأدنى للأجور البالغة 675 ألف ليرة تناهز 450 دولاراً بالسعر الرسمي، إلا أنها تعادل فقط نحو 70 دولاراً بسعر السوق السوداء الذي يُستخدم لتسعير السلع الاستهلاكية في الأسواق التجارية عملياً، بما في ذلك الملابس ومستحضرات التجميل ومنتجات التنظيف.
محمد فاكهاني، مدير سلسلة متاجر صغيرة، أغلق منضدة اللحوم منذ شهور حيث ارتفعت الأسعار بشكل يتجاوز قدرة العملاء على الشراء. وهو يُخزّن سلعاً أرخص لم يكن من الممكن بيعها سابقاً في لبنان الواعي شعبه بالعلامات التجارية، ولم يعد يقبل مدفوعات البطاقات الائتمانية لأن الموزعين لا يقبلون الدفع لهم إلا نقداً.
ويقول فاكهاني: “يشتري الناس أقل. إنهم لا يسألون عن العلامات التجارية بعد الآن، ولا يذهبون إلى الكماليات، بل يكتفون بشراء الأساسيات فقط”، مضيفاً: “ستكون هناك أرفف فارغة إذا استمرت العملة في التدهور بهذه السرعة، حيث سنكافح من أجل مواكبة ذلك. ستنخفض النوعية والكمية”.
المقايضة بدل “الكاش”
والمقتدرون أكثر من غيرهم يعملون الآن على تخزين الأغذية المعلبة وغاز الطهي والأساسيات الأخرى تحسباً للنقص أو النفاد من الأسواق، في وقت توقفت إشارات المرور عن العمل، ولم تعد الشوارع مضاءة ليلاً، وحال الطرق تزداد سوءاً عما كانت عليه سابقاً. كما أن خطوط الزبائن خارج المخابز والسهر على ضوء الشموع كلها مشاهد تستحضر ذكريات قاتمة تعود إلى أيام الحرب الأهلية.
ثمة عائلات يائسة جداً لدرجة أن صفحات “فيسبوك” ظهرت في الآونة الأخيرة يعرض فيها أصحابها ممتلكات شخصية، مثل الأحذية والأواني الزجاجية، لمقايضتها مع آخرين مقابل الحفاضات وحليب الأطفال.
ويحاول “بنك الطعام اللبناني”، وهو مؤسسة خيرية، ملء الفراغ، لكن بالكاد يمكن الاحتفاظ بسلة مكوّنة من 14 سلعة أساسية كانت تكلف في السابق 37 ألفاً و500 ليرة وأصبحت تكلف الآن 105 آلاف ليرة.
المديرة التنفيذية، سهى زعيتر، قالت إن “اللبنانيين لديهم كبرياء، واعتادوا على إخفاء حاجتهم إذا كانوا يعانون من صعوبات، لكننا وصلنا إلى النقطة التي أصبحت فيها ثلاجات بعض الناس فارغة ويطلبون المساعدة لإطعام أطفالهم”.
الشركات تدفع
من خلال ربط سعر صرف الليرة بالدولار لأكثر من 20 عاماً، دعم لبنان بشكل فعّال الواردات، الأمر الذي سمح لشعبه بالاستمتاع بأنماط الحياة التي تتجاوز إمكانياته. فقد اجتذبت أسعار الفائدة المرتفعة المدفوعة للمودعين تحويلات المغتربين التي تُعد مصدراً مهما للدولار – لكنها أحبطت المشاريع حيث يمكن للبنانيين كسب المزيد من الأموال المودعة في البنك.
لكن التحويلات جفّت، العام الماضي، ما دفع بالمصارف إلى الحد من سحوبات الدولار، ثم التوقف عن صرف العملة الأميركية بالكامل.
وهذا ما دفع بالشركات إلى اللجوء للسوق السوداء (الصرافين غير المرخصين) كي تحصل على الدولار وتدفعه إلى المستوردين في الخارج، لكن هناك طلباً على الدولار أيضاً من اللبنانيين الحاصلين على قروض سكنية أو قروض شخصية اشتروا بها سيارات مقوّمة بالدولار، وكذلك الأمر بالنسبة للعائلات التي يدرس أبناؤها وبناتها في جامعات أجنبية أقساطها ليست بالليرة.
ويقول المقرضون الدوليون، بما في ذلك “صندوق النقد الدولي”، إنهم مستعدون للمساعدة بمجرّد أن يُظهر لبنان جدية في إنهاء الفساد وإعادة هيكلة اقتصاده.
وفي الوقت الحالي، تراهن الحكومة على دولارات المغتربين القادمين لزيارة منازلهم وأهاليهم في لبنان مع إعادة فتح “مطار رفيق الحريري الدولي-بيروت” بعد إغلاقه لفترة ضمن تدابير مكافحة انتشار جائحة فيروس كورونا، لكن العديد منهم فقدوا أيضاً مدخرات أودعوها لدى المصارف اللبنانية.
المصدر: العربي الجديد