مساء يوم الجمعة، انتهت الجلسة التشريعيّة وصادق المجلس النيابي على الموازنة، من دون أن تتم المصادقة على سعر صرف خاص للسحوبات من المصارف، وفقًا لمطلب حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. مع الإشارة إلى أنّ النائب علي حسن خليل حاول تمرير هذا المقترح خلال الجلسة، ساعيًا إلى تحديد سعر الصرف هذا عند حدود 25 ألف ليرة للدولار، أي بحدود 28% من سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية. غير أنّ هذا المقترح سقط. وهكذا، عادت الأمور إلى حالها، في ظل تملّص منصوري من تحديد سعر صرف للسحوبات بموجب تعميم من المصرف المركزي، وإصراره على ربط أي سعر صرف خاص من هذا النوع بغطاء تشريعي، وهو ما لم يتأمّن.
كل هذه التطوّرات، تعيدنا إلى السجال السابق حول مسألة التعميم 151، الذي يُعنى بالودائع التي تحرّكت بين الحسابات بعد تشرين الأوّل 2019، أو جرى تكوينها بعد هذا التاريخ بموجب عمليّات قطع. وهذه العمليّات، كما هو معلوم، لا يشملها التعميم 158 الذي يؤمّن دفعات شهريّة بالدولار النقدي، إذ تقتصر مفاعيل هذا التعميم على الودائع “المستقرّة” في حساباتها منذ تشرين الأوّل 2019. أمّا التعميم 151، موضوع السجال الراهن، فكان يؤمّن السحوبات بالليرة وبسعر صرف منخفض جدًا، قدره 15 ألف ليرة للدولار، قبل أن يمتنع المصرف المركزي عن تجديده بعد رأس السنة الماضية. وسبب عدم التجديد يعود، كما أسلفنا القول، إلى الفلسفة الجديدة التي يتبنّاها منصوري، التي ترفض تحميل مصرف لبنان مسؤوليّة وضع أسعار صرف منخفضة للسحوبات من دون غطاء تشريعي، لكون ذلك يُعد “هيركات” فعلي.
ابتزاز المصارف لمنصوري بعد سلامة
إذا كان تحديد سعر الصرف المنخفض من قبل المجلس النيابي قد سقط، فالنتيجة الحتميّة هي عدم العودة للعمل بالتعميم 151 وفق الآليّة السابقة، أي وفق صيغة السداد بالليرة وبسعر صرف يحمّل المودع اقتطاع من قيمة السحب. هذا إذا ما افترضنا إصرار منصوري على فلسفته القانونيّة الجديدة، وهو ما يرجّحه معظم المتابعين اليوم.
والبديل عن هذه الصيغة، سيكون العودة إلى المقترح الأساسي الذي طرحه منصوري منذ البداية: تأمين سحوبات شهريّة بالدولار النقدي للمستفيدين من التعميم 151، وبسقف 150 دولاراً أميركياً للحساب الواحد، على أن تتشاطر المصارف مع مصرف لبنان (من الاحتياطات) عبء سداد هذه الدفعة.
وكما هو معلوم، مازالت المصارف ترفض التعاون مع مصرف لبنان لإقرار آليّة من هذا النوع، بموجب تعميم من المصرف المركزي. والملفت للنظر، هو أنّ معارضة هذه الآليّة، ينطلق من إمكانيّة “تفليس المصارف” في حال فرض سداد هذه الدفعات، وهو ما عبّر عنه –من دون أي إثبات علمي- الخبراء الذين يدورون في فلك جمعيّة المصارف. مع الإشارة إلى أنّ كثير من المتابعين يستبعدون أن تؤدّي هذه الدفعات فعلًا إلى أزمة سيولة، لكونها تقتصر على جزء من الحسابات المصرفيّة، ولكون المصارف ستتحمّل نصف قيمة الدفعات فقط، فيما يتحمّل المصرف المركزي النصف الآخر منها.
على أي حال، ثمّة ما يستحق الوقوف عنده هنا، بخصوص ابتزاز المصارف للمصرف المركزي، بفكرة “تفليس القطاع المصرفي”.
فمن المألوف في العادة أنّ تهدّد المصارف المركزيّة المصارف التجاريّة بتصفيتها، أو وضع اليد عليها، في حال عدم الامتثال لإجراء تنظيمي أو معيار معيّن يتعلّق بالسيولة أو الملاءة. بل وتلجأ المصارف المركزيّة للتلويح بخطوات عقابيّة، قد تصل إلى حدود ملاحقة الأملاك الخاصّة لأعضاء مجالس الإدارة، بعد فتح السجلّات والبحث في أسباب ونتائج المخالفات المصرفيّة. بصورة أوضح: الطبيعي هو أن يهدد المصرف المركزي المصرف العادي بفكرة التفليس، لا أن يبتزّ المصرف المصرف المركزي، الوصي على القطاع، بالإفلاس!
المهم هنا، هو أنّ هذا الابتزاز التي تُشهره المصارف في وجه منصوري، لا يُعد مسألة مستجدّة، في سياق علاقة جمعيّة المصارف مع مصرف لبنان. بل على العكس تمامًا، لطالما أشهرت المصارف هذا السلاح في وجه الحاكم السابق رياض سلامة، وبعبارات وشعارات متطابقة، من دون أن يرف لها جفن. وهذا تحديدًا ما يفرض البحث عن سر علاقة الابتزاز هذه، وعن سر نجاح المصارف في الضغط على مصرف لبنان، من هذه الزاوية الغريبة وغير المألوفة.
التهديد بتعثّر المصرف المركزي نفسه
آخر الميزانيّات المجمّعة للقطاع المصرفي، تشير إلى أنّ حجم الودائع المتبقية في القطاع بالعملات الأجنبيّة يُقارب حدود 91.28 مليار دولار أميركي، وهو ما يفترض أن يمثّل –من الناحية المحاسبيّة- إلتزامات المصارف للمودعين. في مقابل هذا المبلغ، يترتّب على المصرف المركزي إلتزامات بقيمة 83.77 مليار دولار، لمصلحة المصارف التجاريّة. بمعنى آخر، توازي إلتزامات المصرف المركزي للمصارف التجاريّة نحو 92%، من إجمالي قيمة الودائع الموجودة في القطاع. هذه النقطة بالذات، تمثّل عاملًا حاسمًا في العلاقة التي تحكم المصارف بالمصرف المركزي.
فمن الناحية العمليّة، كان من المفترض أن تكون عمليّة تنظيم سداد الودائع، وتنظيم إعادة هيكلة القطاع، من مسؤوليّة تشريعات خاصّة واستثنائيّة يضعها المجلس النيابي. وكان بإمكان هذه التشريعات أن تحدد الكثير من الإجراءات الطارئة التي تعالج تشابك ميزانيّات المصارف بميزانيّة المصرف المركزي، مثل: آليّة التعامل مع المصارف غير القادرة على استقدام رساميل جديدة، وآليّة شطب الرساميل القائمة لتحميلها نصيبها من الخسائر، وكيفيّة تقييم الموجودات المتبقية في القطاع، وكيفيّة التعامل مع فجوة الخسائر الموجودة في مصرف لبنان…إلخ. وجميع هذه الإجراءات، تضع المصارف وأصحابها في موقع المُطالب بتصحيح وضعه، لا العكس كما هو الحال اليوم.
غير أنّ غياب هذه القوانين حتّى هذه اللحظة، يضع المصارف في الموقع الأقوى أمام المصرف المركزي. فتفليس المصارف ووضع اليد عليها، من قبل مصرف لبنان، سيعني تكبيد المصرف المركزي عبء التعامل مع كتلة الإلتزامات المترتبة على المصارف، إلى أن تتم إعادة رسملة كل مصرف أو دمجه أو تصفيته بشكل منظّم، كما يجري عادة في عمليّات إعادة الهيكلة. وهذه الأعباء، ستترتّب من زاويتين: أولاً لكون المصرف المركزي هو الجهة التي تدير بشكل مباشر عمليّة وضع اليد على المصارف، وثانيًا لكون المركزي مَدين بإلتزامات كبيرة للمصارف التي يقوم بإعادة هيكلتها، من دون أن يكون هناك تشريعات طارئة واستثنائيّة تنظّم التعامل مع هذا الواقع.
بشكل من الأشكال: تبتز المصارف مصرف لبنان بالاستفادة من تأخّر القوانين الإصلاحيّة، وبفكرة أن غياب هذه القوانين سيفرض تعثّر المصرف المركزي إذا قرّر وضع اليد على المصارف بشكل مباشر. إذ من غير المتوقّع أن يتمكّن المصرف من التعامل مع فكرة تفليس المصارف وتحمّل أعباء إلتزاماتها للمودعين، بغياب الإطار الإصلاحي القانوني الشامل.
واقع الحال يساعد المصارف
ثمّة ما يساعد المصارف على فرض معادلة الابتزاز هذه، في الوقت الراهن. فغياب الخطّة الماليّة، وغياب الإطار التشريعي المطلوب لإعادة هيكلة القطاع، لن يسمحا للمصرف المركزي باستقطاب أي رساميل أو مساهمين جدد، في حال قرّر وضع اليد على المصارف التجاريّة. وحالة الانهيار القائمة، لن تسمح بتقييم موجودات المصارف، ومنها الأصول العقاريّة، بقيم قادرة على تعويم حجم الموجودات المتبقية.
وبطبيعة الحال، غياب القوانين الإصلاحيّة لن يسمح بالتعامل مع فجوة الخسائر الموجودة في ميزانيّة مصرف لبنان نفسها، ولا بالفجوة الموجودة في ميزانيّات كل مصرف على حدة. وأساسًا، لا يملك مصرف لبنان تدقيقًا بسمح بتقييم موجودات القطاع، أو موجودات كل مؤسسة مصرفيّة.
بهذا الشكل، تبتز المصارف مصرف لبنان بحالة الفوضى السائدة، والتي ساهمت المصارف نفسها في تكريسها وتطبيعها، بفعل ضغط اللوبي المصرفي نفسه داخل المجلس النيابي والحكومة. فبفعل خطوات متعمّدة قام بها هذا اللوبي طوال السنوات الأربع الماضية، غابت جميع القوانين الإصلاحيّة التي ترتبط بمعالجة الأزمة المصرفيّة. السؤال الأهم الآن، يرتبط بكيفيّة تعامل منصوري مع هذا النمط من عمليّات الابتزاز، بعد أن ألف اللبنانيون منذ بداية الأزمة كيفيّة تعامل رياض سلامة مع أخطبوط جمعيّة المصارف وأذرعها.