كعادته، فعلها رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، مؤديًا سيمفونيّة تشريعيّة على مدى يومين، لعب خلالها دور المايسترو الذي يتقنُ تمرير ما يريد تحت قبّة البرلمان. حضرت القوّات الجلسات الثلاث، وأمّنت النصاب المطلوب لتمرير سلّة من القوانين التي لا تتسم غالبيّتها الساحقة بطابع العجلة أو الضرورة، لينتهي الحفل بالتمديد للقادة الأمنيين والعسكريين لمدّة سنة. إذًا، هو التمديد عبر قانون كما تريد القوّات، ولجوزيف عون خصوصًا، كقائد للجيش وكمرشّح “طبيعي” للرئاسة، مقابل التنازل عن مبدأ عدم التشريع في ظل الفراغ الرئاسي، ومقابل “السيرك” التشريعي الذي شهده المجلس منذ يوم الخميس الماضي.
البهلونيّات في السيرك التشريعي، لم تقتصر طبعًا على فكرة “تشريع الضرورة”، وعلى تشريع كل ما هو ليس ضروري تحت خانة “تشريع الضرورة”. بل امتدت لتطال طريقة مناقشة وإقرار القوانين، بغياب أي معارضة جديّة، بعدما أمّنت القوّات النصاب وحضرت صامتة، من دون مناقشة مشاريع القوانين، فيما انضمّ جزءٌ آخر من نوّاب المعارضة إلى الجلسة التي طُرح خلالها التمديد حصرًا. في هذا المشهد، وبغياب نوّاب التيار الوطني الحر أيضًا، كان برّي مُطلق اليدين، فيما أدّى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونائب رئيس المجلس إلياس أبو صعب دورهما في تبادل التمريرات الماكرة مع برّي.
إقرار الصندوق السيادي: ما “ضرورة” الصندوق الآن؟
لن يبصر لبنان أولى طلائع عوائد الغاز قبل سبع سنوات من اليوم، على ما يردّد العارفون بأمور القطاع اليوم. هذا إذا افترضنا أنّ الشركات التي تعمل في البلوكات اللبنانيّة ستعثر على الكميّات التجاريّة بالفعل، وأنّ الكميّات ستكون كافية لتأمين جدوى تصدير الغاز بدل بيعه محليًا. هذا تحديدًا ما دفع بعض النوّاب إلى السؤال عن الغاية من تمرير مشروع قانون الصندوق السيادي في هذه المرحلة، خصوصًا أن القانون سيحدد أطر استثمار واستعمال العائدات، التي لم يتبيّن حجمها بعد. مشروع قانون من هذا النوع لا حاجة له في جلسات التشريع الطبيعيّة، فكيف الحال إذا كنّا نتحدّث عن “تشريع ضرورة”؟
ومع ذلك، مضى رئيس المجلس إلى النقاش في مشروع القانون، لتكون الطامّة الكبرى في طريقة تناول موضوع حسّاس من هذا النوع. التيّار، المغيّب عن الجلسة، كان قد اقترح أن يكون الصندوق تحت وصاية رئاسة الجمهوريّة، لحسابات طائفيّة لا تُخفى على أحد. ولحسابات شبيهة، أرادت حركة أمل أن يكون الصندوق تحت وصاية وزير المال، التوقيع الشيعي الثالث كما ثبّتته أعراف السنوات الأخيرة. حسنًا، تعالوا إلى كلمةٍ سواء: سيكون لمجلس الوزراء مجتمعًا سلطة رقابيّة ما.
التفاصيل، كما هي العادة، تُبت عند صياغة مقرّرات الجلسة التشريعيّة لاحقًا.
السيرك التشريعي: قانون الحلول الوسط
يستمر السيرك التشريعي. مشروع القانون يعطي مجلس الخدمة المدنيّة صلاحيّة تعيين إدارة الصندوق السيادي، “بالتعاون مع مؤسسات توظيف دوليّة”، من دون أن تحسم المسودّة المطروحة هويّة الجهة التي ستحيل اقتراح مرسوم التعيين إلى مجلس الوزراء. والعارفون بطريقة عمل المؤسسات الدستوريّة اللبنانيّة، يدركون أن الجهة التي تملك صلاحيّة الإحالة ستملك بيدها مفاتيح عرقلة التعيين، من خلال “عدم الإحالة”.
يتحسّس نوّاب حزب الله، فيطلب النائب حسن فضل الله أن تملك وزارة الماليّة صلاحيّة هذه الإحالة. يناور النائب بلال عبد الله، فيطلب أن تكون المرجعيّة مجلس الوزراء. ثم، ولسبب غير مفهوم، يتملّص وزير حركة أمل علي حسن خليل من الدفاع عن صلاحيّة وزير الماليّة هنا، فيذكّر أن مجلس الخدمة المدنيّة يتبع لرئاسة الحكومة. تعالوا إلى كلمةٍ سواء مرّة أخرى: ستُحال التعيينات من مجلس الخدمة المدنيّة إلى رئاسة الحكومة التي تحيلها إلى مجلس الوزراء.
يتحسّس حزب الله مجددًا من إلزام مجلس الخدمة المدنيّة بالتعاون مع مؤسسات توظيف دوليّة. فيطلب أن يكون ذلك خيارًا، وليس مسألة إلزاميّة. يصرّ أبو صعب على العكس، ويصرّ نواب الحزب على موقفهم. الحل الوسط هو عبارة لغم، لا يتضّح منها إلزاميّة أو عدم إلزاميّة التعاون مع مؤسسات التوظيف الدوليّة: “مجلس الخدمة المدنيّة الذي يستشير مؤسسة توظيف دوليّة”. ما حدود هذه الاستشارة؟ وما حدود التقيّد بها؟ تُرك النزاع إلى مرحلة تطبيق القانون، كالعادة.
وعلى النحو نفسه، ناقش المجلس الحد الأدنى من أصول الصندوق، التي يفترض استثمارها في الخارج، رغم أن المجلس لا يملك أي فكرة عن حجم هذه العائدات ولا جداول تدفّقها. المسودّة تضع نسبة 75% كحد أدنى، وحزب الله يحتج، ويطالب بأن يكون لهذه النسبة حد أقصى أيضًا، ليُتاح استثمار بعض أصول الصندوق في الداخل (أين؟ وعلى أساس أي خطّة اقتصاديّة؟ لم يُناقش ذلك). بعد أخذ ورد، كان الحال الوسط اعتماد صيغة تسمح بأن تتراوح نسبة العائدات المُستثمرة في الخارج بين 60% و75%.
الكابيتال كونترول ومناكفة صندوق النقد
بنفس العقليّة، ناقش المجلس مشروع قانون الكابيتال كونترول. وعند هذه النقطة بالتحديد، ظهر حجم الضغينة الذي تتحتفظ بها مجموعة كبيرة من النوّاب، تجاه صندوق النقد والإصلاحات التي يطالب بها، والتي تعارضت في العديد من المحطات مع مصالح المنظومة السياسيّة.
يبدأ النقاش بإشارة نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى تحفّظ صندوق النقد على المسودّة المطروحة أمام الهيئة العامّة، ليحتفي النائب قبلان قبلان ويبدي الحماسة لإقرار القانون، لمجرّد أنّه لا يرضي صندوق النقد، بمعزل عن مندرجات القانون ومدى تناسبه مع مصلحة البلاد الاقتصاديّة والماليّة. وبعد أخذ ورد، برز تناقض محدود بين الشامي الذي اعتبر أنّ إقرار القانون ممكن من دون ربطه بسائر القوانين الإصلاحيّة، وميقاتي الذي اعتبر أن هذا القانون وحده لن يقدّم أو يؤخّر من دون إقرار سائر القوانين.
وهكذا، انتهى النقاش بتبادل للتمريرات بين رئيسي الحكومة ومجلس النواب، ليُحال مشروع القانون إلى اللجان مجددًا، على أن يُطرح في الهيئة العامّة “بعد شهرين”، بالتوازي مع سلّة القوانين الإصلاحيّة الأخرى. وبطبيعة الحال، كان جميع من في القاعة يُدرك أن تعديل الخطّة الحكوميّة، وإقرار سائر القوانين التي تُقر على مرّ السنوات الأربع الماضية، مستحيل خلال شهرين من الزمن، خصوصًا أن بعض هذه القوانين ضائع منذ زمن بين الحكومة والمجلس النيابي. ببساطة، دُفن الكابيتال كونترول حتّى إشعارٍ آخر.
تسابق على الخدمات والزبائنيّة
النقاش في سائر القوانين، تحت شعار “تشريع الضرورة”، سرعان ما أظهر تسابقًا على حجز حصّة من المال العام، لتقديم الخدمات الانتخابيّة المناطقيّة. فمناقشة قرض البنك الدولي المخصّص لتمويل بطاقة أمان، لم يمر من دون تعديل اتفاقيّة القرض، لمنح المخاتير والبلديّات دورًا في تحديد العائلات المستفيدة، بهدف تمكين الأحزاب من استعمال البطاقة لتقديم الخدمات للناخبين. أمّا مناقشة قرض البنك الأوروبي لإعادة تأهيل (أي “تزفيت”) الطرقات، فتحوّل إلى سجال سعى من خلاله كل نائب إلى حجز حصّة من “الزفت” لمنطقته. وفي جميع هذه المناقشة، لم يتضح فعلًا مدى اتصال هذا النوع من التشريع بالضرورة، التي كان من المفترض أن تكون عنوان الجلسة.
بطبيعة الحال، شهدت الجلسات إقرار قوانين أخرى تتسم ببعض الأهميّة، مثل القانون المرتبط بالطاقة المتجددة الموزّعة، أو قانون استحداث نظام التقاعد. إلا أنّ مناقشة هذه القوانين المهمّة كان من الممكن أن تتم في جلسات طبيعيّة، تُشارك فيها الكتل بفعاليّة، بل أن يتم إقرار هذه القوانين في جلسات مختلف على مشروعيّتها، وتشهد مقاطعة جزء من النوّاب، أو حضور جزء آخر منهم من دون مشاركة. وهذا ما انعكس في فقر النقاشات وسطحيّتها، بدل أن تتسم النقاشات بالعمق المطلوب لمقاربة هذه المواضيع.
أخيرًا، لم تخلُ الجلسات من علامات الاستفهام المتعلّقة بطريقة إدارة الجلسات، مثل التصديق على بعض القوانين بعد “طرحها للتصويت” بشكل فوضوي، ومن ضمن حالة من الهرج والمرج، من دون حصول أي تصويت فعلي، أو حتّى التصويت على بعض القوانين بعد فقدان الجلسات للنصاب. كما حصلت حالة من الفوضى بخصوص طريقة احتساب النصاب، في ظل تواجد مجموعة من النوّاب على الشرفات المخصّصة للإعلاميين، وإصرار بعض النوّاب على احتسابهم من ضمن النوّاب الحاضرين. وكل هذه الفوضى البرلمانيّة، تعيد فتح النقاش حول تهشيم مبادئ ومعايير العمل التشريعي، التي تهشّم بدورها فكرة دولة القانون والمؤسسات.