12 صفحة، خطّها محامي جمعيّة المصارف، وعممتها الجمعيّة على المصارف الأعضاء، كانت كافية لتلخيص موقف كبار النافذين في القطاع، إزاء مشروع القانون المتعلّق “بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”. هذه الوثيقة، لا تشكّل سوى التتمّة الطبيعيّة لكل ما قام به اللوبي المصرفي منذ العام 2020، من حملات منظمة لإسقاط أي محاولة لإعادة هيكلة القطاع.
وهذا الموقف هو تتمّة لكل الحملات الإعلاميّة التي يقوم بها هذا اللوبي، عبر الأذرع الإعلاميّة التي تدور في فلكه، في مواجهة الاقتصاديين ومجموعات الضغط والإعلاميين الذين يطالبون تقليديًا بهذا النوع من الإصلاحات. مضمون الوثيقة المكتوبة واضح: المصارف تريد إفراغ عمليّة إعادة الهيكلة من أهدافها ومضامينها الفعليّة. من يتحمّل الخسائر، يمكن أن يكون المودع أو المال العام، لكن ليس مالكي المصارف. أمّا المحاسبة، فيجب طمسها بالحديث عن عفو مالي عام.
العفو المالي العام
بعض ما كُتب في الوثيقة يثير العجب. هناك جملة تقول ما حرفيّته: “إن رفع الدعاوى ضد القيمين على إدارة المصرف يجب أن يقتصر على من تولى الإدارة قبل ثمانية عشر شهرًا لتاريخ توقّف المصرف عن الدفع، وليس قبل عشر سنوات من قرار الإصلاح”. باختصار، ما تريده المصارف هنا هو حصر الملاحقة القانونيّة، في حال الاشتباه بأعمال احتياليّة، بالإداريين الذين عملوا حتّى سنة ونصف قبل حصول الانهيار، أي لغاية نيسان 2018. كل ما سبق ذلك، يقع ضمن خانة “عفو مالي عام” باتت تطالب به المصارف اليوم.
لماذا سنة ونصف بالتحديد؟ ببساطة، لتحييد كل المخالفات والارتكابات التي حصلت في أوجّ فترة الهندسات الماليّة، عن الملاحقات القانونيّة. العودة أكثر إلى الوراء، تفتح باب محاسبة بعض المصرفيين بخصوص الصفقات الخاصّة التي قاموا بعقدها مع رياض سلامة في أوروبا، بالتوازي مع حصول الهندسات الماليّة في بيروت. كانت الهندسات تستنزف موجودات مصرف لبنان، أي أموال المودعين، وكانت أرباح الهندسات تعوّم أموال المصارف الخاصّة، أي رساميل المصرفيين أنفسهم. وفي أسواق أوروبا، كان رياض سلامة ينال “لحسة الأصبع” منهم، على ما كشفت الصحافة الاستقصائيّة لاحقًا.
عودة إلى العفو المالي: الوثيقة ترفض كل ما تضمّنه مشروع القانون، بخصوص إمكانيّة “استرجاع الأموال لاسيما أرباح المساهمين”، لأن ذلك، بحسب جمعيّة المصارف، “يخالف كل المبادئ القانونيّة المتعارف عليها عالميًا” (؟). نفهم المقصود هنا: ترفض الجمعيّة احتمال المحاسبة والمساءلة، والعودة لمطالبة المصرفيين بإعادة الأرباح الفاحشة التي حققوها، من عمليّات استثنائيّة وغير طبيعيّة قام بها مصرف لبنان. هذه العمليّات، التي جرت على حساب المودعين، ولمصلحة المصرفيين، كانت حقًا مكتسبًا لا يمكن مراجعته، بحسب الجمعيّة. إذا اعتمدنا منطق جمعيّة المصارف هنا، فإن أي عمليّة احتياليّة من هذا النوع، تصبح حقًا مطلقًا لصاحبها، وإن كان ثمنها إفلاس قطاع مالي كامل. والعودة لفتح الدفاتر، تصبح مخالفة للمبادئ “المتعارف عليها عالميًا”.
لم يتعارف أحد عالميًا على قدسية أرباح نماذج “بونزي” احتيالي كالذي جرى في لبنان. لكن نحن أمام قطاع مفلس ومتعثّر، يرفض حتّى إعادة تنظيم هيكليّة ملكيّته. تقول الوثيقة: لا يُعقل أن يُطلب من المصرف إعادة تنظيم هيكليّة الملكيّة، لأن الملكيّة مصانة في الدستور (؟!). ما ترفضه المصارف هنا، هو احتمال أن تُجبر على إدخال مساهمين جدد، لضخ رساميل وأموال جديدة في المصارف وإنقاذها، مع ما يعنيه ذلك من إمكانيّة خضوع المصارف للدمج والاستحواذ. هذه العمليّة البديهيّة، يمكن أن تمس بسيطرة المصرفيين على مؤسساتهم، وهي واقعيًا النصيب الذي سيتحملونه من الخسائر. لكن المصارف المتعثّرة، ترى في هذا الإجراء البديهي مساسًا بحق دستوري.
طبعًا، لا ينص الدستور ولا القانون على قدسيّة رساميل المؤسسات التجاريّة او المصرفيّة المُفلسة. التاجر أو المصرفي المُفلس، يتحمّل أوّل شريحة من الخسائر، من رساميله، قبل أن يتحمّلها أي دائن أو مودع. يتحمّل خسارة ملكيّته للمؤسّسة، وفق هرم توزيع الحقوق المتعارف عليه. وحدها مصارف لبنان ترى أن الدستور ينص على قدسيّة رساميلها وملكيّاتها.
كبرياء المصارف
بعض أجزاء الوثيقة، تعكس بوضوح كبرياء أصحاب المصارف. لا ترى الوثيقة ضرورة لذكر احتمال “السيطرة على المصرف” من قبل الهيئة الناظمة لعمليّة إعادة الهيكلة، بل يكفي “تعداد الصلاحيّات” التي تملكها هذه الهيئة. أما الإشارة إلى إقالة أو استبدال أعضاء مجالس إدارة المصارف والإدارة العليا، فلا يجب تعليله بعمليّات جرت مع مصرف لبنان. والمقصود هنا، طبعًا، هو إعفاء المصرفيين من أي مسؤوليّة إزاء العمليّة الاحتياليّة الكبرى التي جرت في زمن رياض سلامة، داخل مصرف لبنان، الذي بات اليوم مركز الزلزال المالي ومصدر فجوة الخسائر.
في أمكنة أخرى، تطالب جمعيّة المصارف بأمور أكثر غرابة: تريد أن تتمثّل في اللجنة التي تحدد مصير المصارف، خلال عمليّة إعادة الهيكلة، أي أن المصارف تريد تقييم ومراقبة ومحاسبة نفسها. وهي تريد أن يُسمح لها بالتنازل عن مطلوباتها المترتبة بذمّة الدولة ومصرف لبنان، للمودعين، أي أن تحوّل ودائع عملائها إلى ديون بذمّة الدولة أو مصرف لبنان. وهذا هو ببساطة شديدة مشروع جمعيّة المصارف الأساسي المُعلن منذ العام 2020، وهو البديل عن مسار إعادة الهيكلة الذي ترفضه المصارف كما يبدو واضحًا من هذه الوثيقة.
في خلاصة الأمر، لا تريد المصارف مسارًا جديًا لإعادة الهيكلة. وهي ستواصل الضغط هذا الأسبوع، إعلاميًا وسياسيًا على مجلس الوزراء، لتفريغ نص مشروع القانون من أهدافه ومضامينه. وفي الوقت الذي تتذرّع فيه الحملة الإعلاميّة بقدسيّة الودائع، والمؤامرة المزعومة لضرب القطاع، يبدو واضحًا من مضمون الوثيقة أن الهدف هو حماية ملكيّات المصرفيين لمصارفهم، والحفاظ على سيطرتهم على القطاع. دخول رساميل جديدة، ومساهمين جدد، ممنوع.