كان آخر تقرير للاستقرار المالي الصادر عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بمثابة أخبار جيدة لأي شخص يخشى من أن يؤدي اللجوء إلى سلسلة قياسية من زيادات أسعار الفائدة إلى إرهاق النظام المصرفي، أو إحداث ركود بسبب دفع الشركات والأسر إلى التخلف عن سداد ديونها نتيجة لإجراءات تقليص ائتمانية واسعة النطاق.
لكن لم يحدث أي من ذلك.
وبدلاً من ذلك، يصارع الاحتياطي الفيدرالي اقتصاداً تخلص من السياسة النقدية المتشددة، إلى درجة أن مسؤولي المصرف المركزي ليست لديهم رؤية واضحة لما يمكن توقعه وهم منقسمون حول قضايا مثل الإنتاجية والإمكانات الأساسية للاقتصاد، وحتى إذا كان سعر الفائدة الحالي على السياسة تقييدياً، كما تصوروه عندما ألغوا مزيداً من الزيادات، وفق «رويترز».
ويبدو أن تخفيضات أسعار الفائدة التي كان من المؤكد أنها ستبدأ في أوائل عام 2024 معلقة الآن حتى سبتمبر (أيلول) على الأقل، مع احتمال الانزلاق إلى وقت لاحق من هذا العام أو حتى عام 2025 حيث يبقى التضخم ثابتاً.
ويبدو أيضاً أن موجة الائتمان مزدادة الشدة جاءت ثم ذهبت – القروض المصرفية آخذة في الازدياد، والفروق الائتمانية للشركات ضيقة، والميزانيات العمومية للأسر سليمة إلى حد كبير – مع استمرار الاقتصاد في النمو بوتيرة أعلى من إمكاناته الطبيعية وخلق فرص عمل جديدة.
وأظهر مؤشر «الاحتياطي الفيدرالي» المحدث مؤخراً للظروف المالية العامة أنه لم يكن هناك أي تأثير يذكر على النمو الاقتصادي حالياً من السياسة النقدية للمركزي أو الظروف الائتمانية الأوسع التي يهدف إلى التأثير عليها.
وعلى عكس تقييم مسؤولي «الاحتياطي الفيدرالي» بأن السياسة تقييدية، فإن الظروف الائتمانية الحالية في الاقتصاد «متسقة مع النمو الذي يتجاوز الاتجاه التصاعدي»، وفقاً لكبير استراتيجيي الاقتصاد الكلي العالمي في شركة «نيد ديفيس للأبحاث»، جوزيف كاليش.
وأضاف: «هذا يخبرني بأن انتقال السياسة النقدية إلى الاقتصاد الحقيقي في الولايات المتحدة كان أقل فاعلية بكثير» مقارنة بأماكن أخرى.
ويعتري مسؤولي «الاحتياطي الفيدرالي» أنفسهم عدم اليقين بشأن ما إذا كانوا لا يزالون بحاجة إلى تباطؤ الاقتصاد لخفض التضخم، أو ما إذا كان التأثير «الرائع» للإنتاجية وعوامل أخرى سيفي بالغرض. وتكتسب هذه المسألة أهمية خاصة لأن هناك وجهة نظر تدعو إلى تشديد السياسة النقدية، بينما تدعو أخرى إلى التيسير. ومن المتوقع أن يُظهر إصدار بيانات التضخم الرئيسية يوم الجمعة، أن مقياس التضخم المفضل لدى «الاحتياطي الفيدرالي» لا يزال أعلى بكثير من هدف المركزي البالغ 2 في المائة، مما قد يكون علامة على تعثر التقدم.
وقد تكون هذه الحالة قد دفعت «الاحتياطي الفيدرالي» إلى الاعتماد على البيانات بشكل علني، ولكنه يعمل إلى حد كبير على الحدس والغريزة في تحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة قد وجدت توازناً جديداً يتمثل في نمو أعلى وبطالة أقل، أو تحتاج إلى مزيد من الضغط من «المركزي» للتأكد من انخفاض التضخم.
ومع الشك حول دور الأجور في دفع التضخم، وما إذا كانت هناك حاجة إلى سحب مزيد من الطلب من الاقتصاد، والجدل حول مستوى أسعار الفائدة التي قد تؤدي المهمة إذا لزم الأمر، يقول كبير المحللين في فريق أسعار الفائدة والعملات العالمية لدى «كولومبيا ثريدنييدل للاستثمارات»، إد الهوسيني: «لا يوجد إطار عمل واضح للتضخم ولا توجد مجموعة واضحة من المعايير لتقييم موقف السياسة النقدية. إن الحكم بأن السياسة تقييدية يجب أن يأتي من مكان ما… لقد واجهوا صعوبة حقيقية في صياغته».
وشهدت السنوات الأخيرة صدمات فكرية عميقة؛ بدءاً من التعزيز المفاجئ للهجرة الذي عزز العمالة الأميركية إلى التفكيك الجزئي للعولمة وإعادة تخصيص الإنفاق الاستهلاكي نحو الخدمات. وعلى عكس فترات التشديد الائتماني السابقة، فإن سوق الإسكان لن تنهار وكانت دافعة للتضخم في الآونة الأخيرة. وهناك قلق متجدد بشأن تأثير عجز الموازنة الفيدرالية الضخمة على الأسواق المالية، وتساؤلات حول الإنتاجية ومعدل الفائدة «المحايد» المستخدم لتحديد ما إذا كانت السياسة مشددة أم لا.
وتكمن الحيرة في: هل الإمكانات الاقتصادية أعلى مما كان يُعتقد، مع إمكانية تحقيق نمو قوي مستمر دون تضخم مرتفع؟ أم أن النمو في السنوات الأخيرة مدعوماً بسلسلة من الهزات «المؤقتة» – من التخفيضات الضريبية في عهد إدارة ترمب، على سبيل المثال، أو التحويلات الفيدرالية والإنفاق على البنية التحتية في عهد الرئيس جو بايدن – قد يعني ذلك زيادات أسرع في الأسعار وارتفاع أسعار الفائدة؟
ووفقاً لكبير الاقتصاديين العالميين في «فانغارد»، جوزيف دايفيس، فقد أشارت دراسة حديثة إلى أن الدين الفيدرالي وتقدم السكان في السن قد رفعا المعدل المحايد للفائدة بنسبة مئوية تقريباً، مما يعني أن سياسات «الاحتياطي الفيدرالي» ليست مشددة بالقدر الذي يعتقدونه، وهذا من شأنه أن يساعد في تفسير النمو المستمر للاقتصاد، لكنه أيضاً يجعل من الصعب خفض التضخم.
وقال دايفيس، الذي يتوقع حالياً أن المصرف المركزي لن يخفض أسعار الفائدة على الإطلاق هذا العام: «عند التمعن جيداً، تزداد الأدلة على أن (الاحتياطي الفيدرالي) ليس بتلك القيود التي يعتقدونها. يمكنك الاستدلال من خلال الظروف المالية وسوق العمل والتضخم – عندما تنظر إلى كل هذه الأمور الثلاثة، تجد أن المعدل المحايد أعلى».
ويقول مسؤولو «الاحتياطي الفيدرالي» في الوقت الحالي إنهم يكتفون بالانتظار لنرى ما إذا كان النطاق الذي تم تحديده في يوليو (تموز)، وهو 5.25 – 5.50 في المائة، يحث التضخم على العودة إلى المستهدف البالغ 2 في المائة، ولا يفكرون في مزيد من الرفع لسعر الفائدة الأساسي. ومع احتمال بقاء السعر ثابتاً مرة أخرى في اجتماع السياسة النقدية لـ«الاحتياطي الفيدرالي» الأسبوع المقبل، سينتظر المراقبون أي إشارة في بيان «الفيدرالي» الأخير أو في المؤتمر الصحافي لرئيس مجلس «الاحتياطي الفيدرالي» جيروم باول حول وجهة الأمور.
وقد يكون باول أول من يعترف بأنه غير متأكد. وقال كبير الاقتصاديين في «ويلمنغتون تراست»، لوك تيلي: «في مرحلة ما، رفعوا أيديهم نوعاً ما وتخلوا إلى حد ما عن فكرة أنهم سيكونون قادرين على التنبؤ» بمسار التضخم والاقتصاد بالنظر إلى كم التغيرات الجارية.
وأضاف تيلي: «لقد قالوا إنه يجب أن يكون هناك ألم… ثم قالوا إن الوظائف جيدة والنمو جيد، كل ما نريده هو أرقام تضخم جيدة. إنهم يواجهون صعوبة كبيرة في فهم الأمر».