نحن كالغرقى الباحثين عن خشبات خلاص. وقد تكون الإدّعاءات النفطية المتسرّعة التي عَلّقت عليها الدولة- بمسؤوليها وحكّامها ووزرائها- آمال اللبنانيين إحدى تلك الخشبات. هذا مفهوم. لكنه سببٌ للتيقّن من فشلٍ «فاقعٍ» في إدارة التوقّعات ومن نقص خبرات «فاضح» في التعاطي مع ملفّ بهذا الحجم. فالتعويل المفرِط بالتفاؤل على تحوّلنا بلداً نفطياً بين ليلة وضحاها يتلاشى مفعوله مع الوقت. وأن يأتي من حكومات عاجزة عن إنجاز ما هو أبسط يُخشى ألّا يكون سوى جرعة مورفين لردّ نقمة اللبنانيين. البلوك رقم 9 آخر مثال. لكن يجب ألّا نفقد الأمل.
عودة سريعة إلى سلسلة تصريحات في السنوات الأخيرة. ففي كانون الأول 2017، بارك رئيس الوزراء حينها، سعد الحريري، للبنانيين معلناً «لبنان بلداً نفطياً». وفي تشرين الأول 2022، بشّرنا رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، بتحوّل الحلم إلى حقيقة حيث «وافق لبنان على الصيغة النهائية لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وقد أصبح بلداً نفطياً». كلام أحوج ما يكون الجميع إلى سماعه، ما لبث أن أكّد عليه الوزير جبران باسيل- الحاضر الغائب الدائم في شؤون الطاقة وشجونها- حين توجه إلى اللبنانيين بثقة قائلاً: «فَخْرنا أننا نجحنا بتحويل لبنان إلى بلد نفطي». أما وزير الخارجية، عبدالله بو حبيب، فطمأننا بدوره بأن أملاً «نفطياً» كبيراً بانتظارنا، قبل أن يقطع وزير الأشغال، علي حمية، الشك بيقين «الأمل» جازماً في آب الماضي بأن لبنان سيصبح بلداً نفطياً نهاية العام الحالي.
لكن ما الذي عرفه المسؤولون وماذا غاب عنهم قبل إطلاق التطمينات؟ السؤال يصبح أكثر إلحاحاً مع افتقاد هيئة إدارة قطاع البترول – وزارة الطاقة والمياه إلى متخصّصين في مجال الجيولوجيا النفطية بالدرجة الأولى. فعملية استكشاف النفط تحيطها التعقيدات وتتطلب الكثير من التقنيات العلمية والإلمام بتفاصيل جيولوجية وجيو- فيزيائية دقيقة. أما نسبة النجاح، فعادة ما تكون منخفضة حيث لا تتخطى الـ20%. هذا طبعاً إذا لم نقحم النفط والغاز في الزواريب السياسية الضيّقة. ما نعرفه على الأقل أن لبنان وصل متأخراً إلى «الساحة» النفطية، وأن إسرائيل سَبَقَتنا منذ سنوات مستثمرة في مياهها الإقليمية. «توتال إنرجيز» أبلغتنا في 13 الجاري عن إيقاف عملية الحفر في البلوك رقم 9 على عمق 3900 متر بعدما تبيّن لها عدم وجود كميات تجارية في مكمن «قانا». وهذا يرفع من منسوب الأسئلة – لا الأمل.
للبلد النفطي شروط
في بيانها الصادر في التاسع عشر من الشهر الحالي، أشارت هيئة إدارة قطاع البترول إلى أنه، «بعد استكمال أنشطة حفر بئر الاستكشاف قانا 1/31 في موقع الحفر في الرقعة رقم 9 في المياه البحرية اللبنانية من قِبَل المشغل شركة «توتال إنرجيز»، وبالرغم من عدم حصول اكتشاف لمواد هيدروكاربونية نتيجة لحفر هذه البئر، إلّا أن البيانات والعينات التي تم الاستحصال عليها من داخل البئر ستشكّل أملاً جديداً ومعطيات إيجابية لاستمرار عمليات الاستكشاف في البلوك 9 والبلوكات الأخرى، كما أنها تعطي قوة دفع إضافية للإستكشاف في البحر اللبناني». مزيد من الآمال. لكن نبتعد قليلاً عن لبنان تفادياً لأي «انحياز» في هذا الاتجاه أو ذاك. ونذهب إلى الدكتور شكري يعيش، حامل دكتوراه دولة في العلوم الجيولوجية وأستاذ تعليم عال في جامعة صفاقس التونسية (المدرسة الوطنية للمهندسين).
الدكتور يعيش يقول لـ»نداء الوطن» إن تقرير الهيئة غير دقيق كون المعلومات ما زالت غير متوافرة بشكلٍ كافٍ. فالتقرير، كما يضيف، لم يحدّد شيئاً إنما وجّه بتحقيق أكثر تعمّقاً ووضوحاً. نسأله عن العناصر التي يجب توافرها قبل الكلام عن وجود نفط، فيجيب: «كل عملية استكشاف يجب أن تبدأ بمسح جيولوجي ميداني يليه مسح جيو – فيزيائي لتحديد المصائد (المكامن) النفطية حيث يُحتمل وجود النفط. لكن لا يمكن تأكيد ذلك إلّا من خلال عمليات الحفر، ولا يمكن تقدير المخزون إلّا بدراسات معمَّقة تمرّ بحفر آبار أخرى وتحديد هندسة المكمن كما المؤشرات البترو – فيزيائية (أي الفراغات الموجودة في الأخيرة)». أما في ما يتعلّق بالعمق، من الممكن أن تكون هناك كميات كبيرة على عمق ضحل، أي حوالى 1000 متر مثلاً، شرط وجود غطاء صخري عازل ذي نوعية جيّدة جداً (على غرار الطين)، وذلك منعاً لتبدّد النفط أو الغاز على السطح. وختم: «من غير الممكن تأكيد وجود حقل نفطي كبير واعد جرّاء حفر بئر أو اثنتين. فالعملية تستلزم حفر سلسلة من الآبار لتأكيد وجود كميات تجارية هائلة في المنطقة نفسها».
الإخفاقات وأسبابها
نعود إلى لبنان. مصدر مطّلع على الملف أكّد لـ»نداء الوطن» أن هيئة إدارة قطاع البترول، المسؤولة بشكل أساسي من الناحيتين العلمية والتقنية، لا تضمّ اختصاصيين في مجال جيولوجيا النفط. «هناك فرق شاسع بين الخبير النفطي والخبير الجيولوجي النفطي. وهنا تبدأ الإخفاقات. فهل من متخصّص في الهيئة يمكنه قراءة السلّم الطبقي، مثلاً، أو تقييم عمل الشركة الأجنبية المولجة عملية الحفر؟ أوليس هذا ما سيسمح لشركات النفط التحكّم بالعمل كما بالنتائج بلا محاسبة؟»، يتساءل المصدر. أما الإخفاق الثاني، فيتمثّل بالحديث عن مليارات الأمتار المكعّبة من النفط بشكل ساذج وخيالي عقب انتهاء عمليات المسح. علماً أن المسح الجيو- فيزيائي لا يشير سوى إلى وجود مكامن نفطية، في حين لا يمكن تحديد الكميات إلّا بعد الوصول إلى النفط (أو الغاز). من جهة أخرى، يلفت المصدر إلى ضرورة توافر عناصر ثلاثة في علم جيولوجيا النفط قبل حسْم وجود الأخير: المصادر؛ المكامن (أي أن تكون طبقات الأرض قادرة على حمل النفط)؛ والطبقة العازلة (التي تمنع تسرّب النفط إلى السطح). «يجب خرْق الطبقة العازلة للوصول إلى المكمن، وهذا ما لم يحصل في البلوك رقم 4 حيث توقفت عمليات الحفر على عمق 1300 متر، ما يؤكّد غياب الاختصاص والخبرة على الجانب اللبناني»، وفق المصدر.
هل عدم ظهور النفط في البلوكين رقم 4 و9 يعني تراجُع الأمل أو فقدانه؟ يجيب المصدر نفسه أن الطريق طويلة ويجب الوصول إلى حقل نفطي ومعرفة حجمه لاحتساب المخزون ومسامية (مسامات) الصخور. علماً بأن الحقل النفطي يتألف مما لا يقلّ عن 30 إلى 40 بئراً. «هكذا تعمل الدول المنتظمة. لا يعني عدم ظهور النفط في البلوكين المذكورَين أن العملية انتهت هنا، كما أن ظهور النفط في البلوك رقم 9 لم يكن ليعني أننا أصبحنا على لائحة الدول النفطية كما صرّح بعض المسؤولين. ما يحصل هو نتيجة أولية، مع الإشارة إلى احتمال اكتشاف جيوب نفطية قد تكون غير ذي جدوى اقتصادية».
المصدر استغرب ختاماً ما جاء في تقرير الهيئة الأخير حيث أعلنت أنها ما زالت بانتظار التقرير النهائي لشركة «توتال»، في حين أن الشركات الوطنية تقوم عادة بمتابعة عمليات الحفر مع شركات الحفر. «هل سُلّمت التقارير إلى الجهات اللبنانية المعنية وهل ثمة كفاءات قادرة على دراستها؟ نسمع عن تمنّع الشركة عن إعلان وجود نفط- رغم وجوده- لأسباب سياسية. لحسم الأمر، على الدولة الاستحصال على البيانات المطلوبة ودراستها وإلّا لن نصل لأي نتيجة».
خيبة على قدر التوقّعات
محطتنا الأخيرة مع الخبير الجيولوجي، الدكتور طوني نمر، صاحب الخبرة العملية قبل عودته إلى لبنان سنة 2017، في أكبر الشركات البترولية في الولايات المتحدة. وهو شدّد لـ»نداء الوطن» على غياب المختصّصين اللبنانيين في مجال النفط، معتبراً أن من حق شركة التنقيب اتّخاذ ما تراه مناسباً من قرارات. لكن هذا لا يمنع أن تحفظ الدولة اللبنانية حقوقها لناحية الاطلاع ولو بالحدّ الأدنى. أما بخصوص البلوك رقم 4، فذكر أن لا معلومات دقيقة تؤكّد اختراق الطبقة العازلة من عدمه. إلّا أن المنطق يقول إن الشركة التي تتكبد حوالى مليون دولار يومياً في عملية الحفر لا يناسبها التوقف في منتصف الطريق حتى إن هي تأثّرت جيوسياسياً بقرارات وسياسات حكومتها الأم. فما حصل على الأرجح هو عدم الوقوع على كميات اقتصادية، ما أدّى إلى إغلاق البئر بعد جمْع المعلومات.
«الشيء نفسه قد يكون حصل في البلوك رقم 9 رغم أن توقيت انتهاء الحفر تزامناً مع بداية الحرب على غزة مستغربٌ بعض الشيء. لقد أخطأنا مجدّداً وها هي خيبة الأمل تأتي على قدر التوقعات لعدم أخذ العِبَر من المرة الأولى». لكن ما الهدف من الرفع الدائم لسقف التوقعات؟ بحسب نمر، وبعيداً عن السياسة، كانت قلة الخبرة «فاقعة» جداً لا سيّما عبر إعلان بعض المسؤولين لبنان دولة نفطية ما يثبت أنهم لا يعلمون عمّا يتكلمون. فقبل ولوج مرحلة الاستكشاف وحفر أي بئر، من المستهجَن الحديث عن تحوّلنا لبلد نفطي. قد نكون بإزاء مزيج من قلة الخبرة ومحاولة حصْد بعض النجاحات الوهمية في تقاطُع وقتيّ معيّن. «أتفهم ما نسمعه مؤخراً… إذ لا ثقة بالدولة والسلطات والمسؤولين الذين سبق وشهدنا على فشلهم على منعطفات كثيرة. كما أني شخصياً مّمن تساورهم بعض الشكوك أحياناً، لكنّي أحاول اللجوء دوماً إلى التفسير العلمي والمنطقي».
يوم الخميس الماضي، سمعنا من لجنة الأشغال النيابية أنها أخذت «نفَساً بأن هناك قضايا إيجابية» بُعيد اجتماعها بهيئة إدارة قطاع البترول والتباحث بوقف العمل بالبلوك رقم 9 وأسبابه ونتائجه. كلّنا أمل.
لا أخطار زلزالية
هل من أثر محتمل لعمليات التنقيب على النشاط الزلزالي، خصوصاً وأن فالقاً خطراً يقع في البحر اللبناني قريباً من فوالق سلسلة اللاذقية. من حيث المبدأ وفي حال وجود فوالق زلزالية كبيرة قريبة من نقاط استخراج النفط والغاز، يجيب نمر أن تغيّر الضغوطات في جوف الأرض قد يساهم في تحرّك الفوالق منتجةً هزات خفيفة وغير خطرة. «الفالق الأخطر القريب من سلسلة اللاذقية يقع في البلوك رقم 1. ما زلنا بعيدين عن تلك المنطقة، لكن في حال وُجد النفط هناك، يتعيّن العمل بطريقة علمية وموثوقة بعيداً عن أي عشوائية».