تجارة لبنان الدوليّة للعام 2024: الأولويّات تغيّرت خلال الحرب

نشرت إدارة الإحصاء المركزي أرقام التجارة الدوليّة للبنان، لفترة العام 2024، أي ما يشمل تفاصيل الواردات والصادرات والعجز في الميزان التجاري. وجميع هذه الأرقام، عكست تغيّر أولويّات المتسهلك والمنتج اللبناني، خلال فترة الحرب التي خيّمت على ذلك العام، ضمن حدود “قواعد الاشتباك” للفصول الثلاثة الأولى منه، وعلى قاعدة الحرب المفتوحة للفصل الأخير من السنة. ومن المعلوم أنّ الأضرار التي طالت المنافذ البريّة، بالإضافة إلى المخاطر المحيطة بالشحن البحري والجوي، تركت أيضًا أثرها على حجم عمليّات الاستيراد والتصدير خلال تلك السنة.

خلاصة الأرقام

في خلاصة السنة، بلغ حجم الواردات اللبنانيّة -أي السلع المستوردة- ما يقارب الـ 16.9 مليار دولار أميركي، وهو ما يقل بحدود الـ 3.55 بالمئة مقارنة بالعام السابق. في المقابل، انخفض حجم صادرات البلاد خلال تلك السنة أيضًا، لكن بنسبة أكبر ناهزت الـ 9.6 بالمئة، لتقتصر قيمتها الإجماليّة على نحو 2.7 مليار دولار أميركي. بهذا الشكل، انخفضت قيمة الواردات والصادرات على حدٍ سواء، لكن نسبة الانخفاض في حجم الصادرات فاق مثيله بالنسبة لحجم الواردات. وبشكلٍ عام، يمكن القول أن حجم التجارة الدوليّة انخفض كقيمة إجماليّة، بما يشمل الصادرات والواردات معًا، قياسًا بالعام السابق 2023. وبطبيعة الحال، لا يمكن ربط هذا التحوّل إلّا بتداعيات الحرب الإسرائيليّة على لبنان، التي كانت قائمة طوال أشهر السنة الماضية.

المؤشّر الأهم الذي ينبغي الالتفات إليه هنا، هو العجز في الميزان التجاري، أي الفارق بين حجم الصادرات من جهة، وحجم الواردات من جهة أخرى. وهذا المؤشّر، يعكس حجم السيولة بالعملة الصعبة التي يستنزفها الاستيراد، بعد احتساب ما يرد من هذه السيولة بفعل التصدير. وهذا ما يترك أثره بطبيعة الحال على التوازنات النقديّة في سوق القطع، وما يرتبط بها من ضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة.

في خلاصة السنة، كان العجز في الميزان التجاري قد بلغ حدود الـ 14.2 مليار دولار أميركي، وهو ما يقل بنسبة ضئيلة، لا تتجاوز 2.3 بالمئة، قياسًا بالسنة السابقة. مع الإشارة إلى أنّ حجم هذا العجز قد ناهز مستوى الـ 14.53 مليار دولار خلال العام 2023، و15.56 مليار دولار خلال العام 2022، بينما لم يتجاوز مستوى الـ 10.26 مليار دولار أميركي خلال العام 2021. بهذه الصورة، يمكن القول أنّ عجز الميزان التجاري المسجّل خلال السنة الماضية كان الأدنى، منذ عامين، أي منذ نهاية العام 2021.

تحوّلات في الاستهلاك

ثمّة العديد من التطوّرات التي تفسّر انخفاض حجم الواردات خلال فترة الحرب، وفي طليعتها تغيّر أولويّات المستهلك في الظروف الأمنيّة أو العسكريّة الحرجة. إذ خلال فترات من هذا النوع، يقتصر الاستهلاك المحلّي على الحاجات الضروريّة، فيما تؤجّل الأسر الإنفاق الاستهلاكي المرتبط بالكماليّات، وهذا ما يخفّض حجم الاستهلاك الإجمالي وتاليًا حجم الواردات. في الوقت نفسه، تسهم الحرب عادةً في تخفيض القوّة الشرائيّة لفئة واسعة من المستهلكين، من أصحاب الدخل غير الثابت، وهو ما يؤدّي تلقائيًا إلى خفض الاستهلاك والاستيراد.

وأخيرًا، أسهمت الحرب الأخيرة في رفع أسعار السوق، بسبب ارتفاع مخاطر الشحن وانخفاض الإنتاج المحلّي من المزروعات، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة بوالص التأمين. وهكذا، أسهم هذا العامل مجددًا في خفض حجم الاستهلاك الإجمالي، ما يعني أيضًا خفض حجم الواردات.

على مستوى التصدير، أسهمت الحرب في رفع كلفة النقل والشحن إلى الأسواق الخارجيّة، بسبب المخاطر المرتبطة بالأنشطة البحريّة، ومنها تلك المتصلة بالعمليّات في البحر الأحمر. وهذا ما خفّض تنافسيّة السلع اللبنانيّة في الأسواق الخارجيّة، في مقابل السلع الأخرى، فانحسر بذلك حجم التصدير الإجمالي. ومن المعلوم أن لبنان عانى خلال الربع الأخير من العام الماضي من قطع معظم المعابر البريّة الحدوديّة، الشرعيّة وغير الشرعيّة على حدٍ سواء، وهو ما قطع اتصال التجّار البرّي بالأسواق الخارجيّة المحيطة بلبنان.

وفي حالة الأنشطة الصناعيّة، أسهمت الحرب في عرقلة سلاسل توريد المواد الأوليّة، وهو ما أدّى إلى خفض النشاط الإنتاجي العام، الذي يغذّي في العادة الأنشطة التصديريّة. كما أسهمت الأضرار التي طالت البنية التحتيّة في ضرب مقوّمات الإنتاج الصناعيّة والزراعيّة، بما فيها تلك المتصلة بالموارد المائيّة ومصادر الطاقة، وهو ما عنى بطبيعة الحال تخفيض مستوى التجارة الخارجيّة للمؤسّسات اللبنانيّة.

في جميع الحالات، من المهم الإشارة إلى أن تداعيات الحرب على النشاط الإنتاجي، وعلى تجارة البلاد الدوليّة، مازالت قائمة حتّى هذه اللحظة. فنسبة كبيرة من مناطق جنوب لبنان لم تتجاوز بعد آثار الحرب، على مستوى الدمار الذي لحق بالبنية التحتيّة والأحياء السكنيّة والمناطق الزراعيّة، وهو ما يحول دون استعادة النشاط الإنتاجي في تلك المناطق. كما أنّ نسبة موازية من النازحين لم ترجع إلى مناطق إقامتها، وما زالت عرضة للظروف الاجتماعيّة القاسية التي تفرضها حالة النزوح. وعلى هذا الأساس، من غير المرتقب أن ترفع البلاد حجم تجارتها الدوليّة بمستويات عالية، قبل المضي بمسار إعادة الإعمار.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةجمعية المصارف تكاشف سلام رؤيتها… ماذا في كواليس اللقاء؟
المقالة القادمةماذا سيحقّق الاقتصاد فيما لو عادت العلاقات اللبنانية الخليجية؟