تجديد العقد بين أركان النظام

ثمة وجه ظاهر لمنصّة صيرفة يشبه الفخّ الذي ما زالت تأثيراته سائدة في يوميات المقيمين في لبنان، إذ إنها بمثابة نسخة شبيهة بالهندسات المالية التي منحت العملاء معدّلات فائدة مرتفعة على ودائعهم؛ فالمنصّة هي عملية توظيف «نقديّة» للعملة بالليرة اللبنانية، والتعميم 161 يتيح استبدال هذه الليرات بدولارات على سعر أدنى من سعر السوق الحرّة، ما يحقّق للعميل أرباحاً سهلة، وشبه مجانية لولا أن المصارف تقتطع حصّة منها تسميها عمولات. لكنها بشكل أعمق، آلية توزيع تنطوي على تبادل خدمات بين السلطة السياسية وحاكم مصرف لبنان، جرياً على عاداتهم في العقود الثلاثة الماضية.

منذ إنشاء المنصّة، أصدر حاكم مصرف لبنان سلسلة تعاميم وقرارات انتهت إلى استنساب أعداد وفئات المستفيدين. الأفراد العاديون وصغار الموظفين، يحظون بفضلات المكاسب – الأرباح، التي يتقاسمها في ما بينهم كبار المحظيين من سياسيين وأصحاب نفوذ ومصرفيين وكبار التجار والمودعين. اتصالات بين مديري المصارف وأزلام قوى السلطة لرفع سقوف المبالغ المسموح تنفيذها على المنصّة، وعمليات تأجير لأصحاب الحسابات الذين ليست لديهم سيولة للقيام بعمليات المضاربة على العملة على المنصّة… ضخّ كبير من الدولارات المتدفّقة على صيرفة مما يمكن معاينته بشكل ظاهر تستحوذ عليها شريحة من الأزلام والمحاسبين والتجّار.

في بعض المصارف تلعب صلة القرابة أو النفوذ دوراً أساسياً في السماح لصاحب الحساب بتنفيذ عمليات على «صيرفة». لأسباب يجهلها، فشل أحد أصحاب الحسابات من الانتفاع مما يتيح له التعميم 161 القيام به على منصّة «صيرفة». صحيح أنه يستوفي الشروط المطلوبة، مثل ألا تقلّ قيمة وديعته عن 20 ألف دولار، وأن يصرّح عن مصدر الأموال في حسابه، إضافة إلى مصدر استحصاله على مبلغ الحدّ الأدنى للقيام بالعمليات على المنصّة والبالغ 200 مليون ليرة، إلا أنه لأسباب يجهلها لا يتمكن من إتمام العملية. يقارن ما حصل مع زملاء ومعارف أنجزوا العملية بسهولة، ليكتشف أن هناك شرطاً لا يستوفيه وهو صلة القرابة مع أحد المديرين أو شرط الولاء لأحد السياسيين.

في مصرف آخر، لا يزال ينتظر أصحاب الحسابات التي تقلّ عن خمسين ألف دولار قراراً يتيح لهم الانخراط في العملية لاستيفاء شرط حدّده المصرف بأن يُحرم أي صاحب حساب يقلّ عن خمسين ألف دولار من القيام بعملية صيرفة. بعضهم تلقّى نصيحة من أحد مديري المصرف تفيد بأن القرار مصدره مصرف لبنان، وأن هناك تعميماً قد يصدر عن حاكم مصرف لبنان قبل انتهاء ولايته بتجميد هذا الشرط أو بالتراجع عنه.

يتاح للموظفين الذين وطّنوا رواتبهم في المصرف إجراء العملية مرّة واحدة في الشهر، لكن بالنسبة إلى الأفراد الأقلّ دخلاً، فإن الأمر يوجب استدانة ما لا يقل عن 200 مليون ليرة. لذا، بعضهم يسلك طريقاً مختلفاً لنيل حصّة من هذه الدولارات المجانية، وهي وجهة أقلّ خطورة تتضمن تأجير الحساب «على عينك يا موظف»، لأحد التجار الذي يصادر بطاقة السحب النقدي بالعملة الأجنبية العائدة لصاحب الحساب وبعد أسبوع يسلّمه التاجر إياها مع نسبة زهيدة من الأرباح تُراوح بين 30 دولاراً و50 دولاراً، علماً أن المصرف يقتطع عمولة تبلغ 4% أو 3% مضافاً إليها كلفة السحب النقدي التي توازي 1%. قبل أشهر كانت حصّة المؤجِّر تصل إلى 50 دولاراً عندما كان الفرق بين دولار صيرفة ودولار السوق كبيراً، أما اليوم فإن التأجير لم يعد سلعة مناسبة للتجّار.

لا تشكّل حسابات أفراد وعناصر القوى الأمنية والعسكرية استثناء من طمع التجّار الراغبين في الاستفادة من أكبر عدد ممكن من الحسابات، وفي أكثر من مصرف في الوقت نفسه. فهم يستغلّون حاجة هؤلاء الناتجة من تدني رواتبهم ومن ظروفهم المعيشية الصعبة لاستعمال حساباتهم وإتمام العمليات. وهناك محظيون آخرون من أصحاب النفوذ والسلطة ينالون حصّة مماثلة أيضاً، وهم من ذوي الحسابات المتعدّدة في أكثر من مصرف، وهم مساهمون في المصرف، أو أعضاء مجالس إدارة، أو من كبار المديرين، أو من كبار المودعين، أو من الذين تربطهم علاقة وثيقة ونافذة بسياسيين أو مصرفيين.

كان لا بدّ من آليات لتجديد العقد بين أركان النظام الحاكم وحاكمية مصرف لبنان، قوامها إخضاع الفقراء أكثر بتثبيت وهمي ظرفي لسعر الصرف، خصوصاً في ظل انهيار قدراتهم الشرائية وارتفاع أسعار الخدمات الأساسية التي تتجلّى على نحو فواتير كهرباء واتصالات. بهذا المعنى تصبح صيرفة عبارة عن رشوة مقوننة. كذلك، تمثّل هذه الآلية جوائز ترضية لكل من يدور في فلك طرفي العقد تقديراً لولائهم وحفاظاً على مستوى رفاههم الاجتماعي، لئلا يصابوا بخذلان يدفعهم للنقمة وفرط العقد بين الحاكميتين. لذا، لا يخفي المستفيدون من منصة صيرفة، سواء أكانوا صغاراً أم كباراً، قلقهم مما يخفيه لهم شهر تموز من مفاجآت أو قرارات أو شروط من شأنها أن تحدّ من نسبة انتفاعهم أو تلغيها.

مصدرجريدة الأخبار - أسماء إسماعيل
المادة السابقةنواب الحاكم يرضخون بعد لقاء ميقاتي؟ «صيرفة»: أداة للجم الفقراء وإثراء الأثرياء
المقالة القادمة«رشوة» بائسة للقطاع العام