تجربة خطة لازارد تتكرّر: المصارف تأخذ المجتمع رهينة

قبل عامين بالتمام والكمال، كانت حكومة حسّان دياب تُعد العِدّة لطرح خطّة التعافي المالي التي عملت عليها شركة لازارد، استشاري الحكومة المالي المُلم بشروط صندوق النقد الدولي، وآليّات عمل الأسواق الماليّة. يومها، عملت الخطّة على نماذج حسابيّة توضح كيفيّة سداد أكثر من 98% من الودائع، من السيولة المتبقية في النظام المصرفي واحتياطات مصرف لبنان، مع إمكانيّة تحويل جزء من الودائع المتبقية (من أموال كبار المودعين) إلى أسهم في المصارف نفسها. كما استهدفت الخطّة الوصول إلى سعر صرف يقارب 4200 ليرة للدولار على المدى الطويل، بعد تعويم الليرة اللبنانيّة، فيما استندت الخطّة إلى دراسة التدفقات النقديّة المتوقّعة (من صندوق النقد وسائر المقرضين) والاحتياطات المتبقية لاستهداف سعر الصرف هذا.

نتائج سقوط خطّة لازارد عام 2020
إلا أنّ خطّة لازارد سقطت في المجلس النيابي، لمجرّد تضمينها بعض أولويّات صندوق النقد، المتعلّقة بتراتبية الحقوق وتوزيع الخسائر الماليّة. فالخطّة نصّت على شطب أسهم المصارف في المرحلة الأولى، لتتحمّل الشريحة الأولى من الخسائر قبل الانتقال إلى تحميلها لأي طرف آخر، باعتبار أن كتلة الخسائر التي يجري التعامل معها هي خسائر مصرفيّة لا يُفترض أن يتم تحميلها إلى المال العام أو أصول الدولة. ولهذا السبب بالتحديد، تجنّد اللوبي المصرفي داخل مجلس النوّاب للإطاحة بالخطّة، من خلال عمل لجنة المال والموازنة بالتحديد، وهو ما أجهز على احتمال الحل الذي حملته الخطّة. ومع سقوط الخطّة، سقط مسار التفاوض مع صندوق النقد، الذي كان من الممكن أن يفضي برنامجه إلى إعادة الدولة إلى أسواق المال العالميّة.

من الناحية العمليّة، لا يمكن الافتراض بأن خطّة لازارد حملت في طيّاتها الحل الأمثل والأشمل في ذلك الوقت، بالنظر إلى تركّز أهدافها على المعالجات المرتبطة بالقطاع المالي، وتجاهل الإصلاحات البنيويّة المطلوبة في طبيعة النموذج الاقتصادي اللبناني. لكنّ تلك الخطّة حملت على الأقل أفضل ما يمكن تقديمه على مستوى التعامل مع الأزمة المصرفيّة، من ناحية طريقة توزيع خسائر الميزانيّات، خصوصًا بالنظر إلى طبيعة المصالح الراسخة في النظام السياسي، والتي لم تكن تسمح بتصحيح اقتصادي أشمل وأفضل بغياب التغيير السياسي الجذري. بمعنى آخر، كانت الخطّة أفضل الممكن بحسب تركيبة السلطة القائمة آنذاك، وحسب القيود التي تحكم عمل النظام السياسي، بانتظار تبدّلات سياسيّة يمكن أن تؤدّي إلى حلول جذريّة.

ومع ذلك، فضّل اللوبي المصرفي النيابي 2020 أخذ البلاد إلى سيناريو الانهيار الشامل، بإسقاط الخطّة أولًا، وفرملة مسار التفاوض مع صندوق النقد ثانيًا، ومن ثم دفع الليرة اللبنانيّة إلى انهيارات متتالية وغير مسبوقة في قيمتها، ناهيك عن تنامي كتلة الخسائر التي أدّت إلى تآكل المزيد من سيولة المودعين. كانت تلك التجربة قبل عامين مجرّد نموذج عن ما يمكن أن ينتج عن شجع القلّة المحظية، المتحكمة بالقطاع المالي من جهة، والمسيطرة على توجّهات الكتل النيابيّة والأحزاب السياسيّة من جهة أخرى. وهذا السقوط الحر، لم يكن سوى الثمن الذي دفعه المجتمع بأسره، لتملّص أصحاب المصارف من دفع نصيبهم من خسائر الأزمة، تمامًا كما استفادوا في الماضي من نصيبهم –الوافر جدًّا- من أرباح النموذج الاقتصادي القائم.

التاريخ يعيد نفسه
كل ما يجري على الساحة اليوم يوحي بأن التاريخ سيعيد نفسه. وسيناريو إسقاط خطّة لازارد عام 2020، سيتكرّر اليوم مع خطّة التعافي المالي التي وضعتها حكومة ميقاتي، في ضوء محادثاتها مع صندوق النقد الدولي. لكن وبدل دفع البلاد إلى الانهيار الشامل كما جرى بعد إسقاط خطّة لازارد، سيكون ثمن إسقاط خطّة التعافي المالي المطروحة الآن دفع البلاد إلى الارتطام الأخير والنهائي، مع كل ما يمكن أن يتخيّله العقل في مثل هذه السيناريوهات.

فتمامًا كما خطّة لازارد، التزمت خطّة التعافي التي وضعتها حكومة ميقاتي بمعايير صندوق النقد وأولويّاته: سيتم احترام تراتبيّة الحقوق، والبدء بتحميل الرساميل المصرفيّة –أي أسهم أصحابها- النصيب الأوّل من الخسائر. وسيتم الحد من أي استخدام للمال العام في عمليّة الإنقاذ المصرفي. وتاليًا، لن ترضى الخطّة بأفكار جمعيّة المصارف، التي نادت بإنشاء صندوق يستثمر أصول ومرافق الدولة لسد فجوة الخسائر المصرفيّة. والبداية ستكون حكمًا من ضمان شريحة الودائع الصغيرة والمتوسّطة، بما تبقى من سيولة في المصارف، وهو ما يكفل سداد 90% من الحسابات المصرفيّة. أمّا بالنسبة للودائع الكبيرة فيبقى خيار تحويل جزء منها إلى أسهم في المصارف، بما يسمح باسترداد قيمتها لاحقًا –عبر بيعها- بعد الدخول في مسار التعافي.

وتمامًا كما جرى مع خطّة لازارد، أعلنت جمعيّة المصارف النفير، وبدأت بحشد حلفائها في وجه خطّة حكومة ميقاتي، مع علم الجمعيّة ومعرفة جميع حلفائها بأن إسقاط الخطّة اليوم سيعني إسقاط مسار برنامج صندوق النقد، أي إسقاط آخر الرهانات التي وضعتها السلطة للخروج من الانهيار المالي. فهذا البرنامج بالتحديد، هو ما تحاول من خلاله السلطة الحصول على “شهادة حسن سلوك” من الصندوق، بما يسمح بالتفاوض مع حملة سندات اليوروبوند، والعودة إلى أسواق المال العالميّة، أو حتّى الحصول على قروض وازنة من جهات دوليّة أخرى (بما فيها البنك الدولي الذي علّق مشاريع القروض القطاعيّة الأساسيّة بانتظار دخول لبنان هذا البرنامج).

ومع ذلك، أشهرت المصارف وحلفاؤها السيوف في وجه الخطّة، تحت عنوان “تحميل مسؤوليّاتها في معالجة الخسائر”، أو بعبارة أوضح: تحميل ما تبقى من الثروة المجتمعيّة، أي أملاك الدولة اللبنانيّة، كلفة الإنقاذ المصرفي. هنا بالتحديد، تتمظهر الفرادة اللبنانيّة في أبهى حللها، حين يطالب سياسيون ومصرفيّون بتبديد عشرات المليارات من الثروات العامّة، للتعويض عن خسائر استفاد من تراكمها الحلقة الأثرى في المجتمع، بل ولإنقاذ هذه الحلقة من تحمّل كلفة هذه الخسائر، بدل العودة لاسترجاع أرباح الهندسات الماليّة مثلًا من فئة أصحاب المصارف والنافذين من شريحة كبار المودعين.

حلفاء المصارف حتّى الآن
حتّى اللحظة، بات من الواضح أن كتلة القوّات اللبنانيّة ستخوض مع المصارف معركة إسقاط خطّة التعافي المالي داخل المجلس النيابي، في مقابل الدفع باتجاه فكرة خصخصة أصول الدولة لسداد كتلة الخسائر. وهذا الاتجاه ظهر بوضوح في تصريحات النائبين جورج عدوان وغسان حاصباني، فيما تكرّرت في المقابلتين عبارة “ضرورة تحمّل الدولة لمسؤوليّاتها” في سياق تبرير الاتجاه لإسقاط الخطّة. كما بدا من الواضح أن كتلة التيار الوطني الحر ستذهب بالاتجاه نفسه، إذا ما أخذنا بالاعتبار تصريحات النائبين آلان عون وابراهيم كنعان، التي ركّزت بدورها على العناوين نفسها في ما يتعلّق بالخطّة. أما حركة أمل، فعبّر عن موقفها النائب علي حسن خليل، الذي أشار إلى رفض الحركة لمندرجات الخطّة، من دون تحديد البدائل العمليّة.

في خلاصة الأمر، بات اللوبي المصرفي جاهزًا في المجلس النيابي الجديد ليخوض معركة إسقاط خطة التعافي المالي، ومن ثم إسقاط مسار التفاهم مع صندوق النقد بأسره، ما سيدفع البلاد نحو الارتطام الأخير بغياب أي بديل جاهز. هنا بالتحديد، يصبح من الواضح معنى أن تتشابك مصالح مصرفيّة ماليّة مع حسابات الطبقة السياسيّة المتحكمة بقرار المجلس النيابي. كما يصبح من الواضح كيف يؤخذ مجتمع ما رهينة نظام مصرفي بات أكبر من أن يتم تطويعه، أو ترويضه.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةوزير المالية الروسي يكشف عن سبب “معاناة” البلدان المتقدمة من التضخم
المقالة القادمةتراجع الاستهلاك والتنقّل: أسعار المحروقات تخرج من متناول اللبنانيين