هذا المقال ليس دعايةً مدفوعة، أؤكّد لكم. اختيار صناعة السيارات اليوم له هدفان: الأوّل هو أني قضيت وقتاً معتبراً أبحث في الشركات الصينية الجديدة، ولا بدّ لهذا الجهد أن يذهب في مكان ما؛ وثانياً والأهمّ، هو أنّ صناعة السيارات العالمية تصلح بامتيازٍ كمثالٍ على القضايا التي سنناقشها بكثرةٍ في المرحلة القادمة، فيما الحرب العالمية على التجارة تتفاعل.
يبدو أنّ البعض لم يفهم بعد معنى أن تحاول اميركا إعادة هندسة الاقتصاد العالمي «بشكلٍ أحاديّ». هذه العملية لا تجري في العادة إلّا بعد حدثٍ من نوع حربٍ عالميّةٍ، أو انهيار إمبراطورية أو أزمة اقتصادية هائلة تشلّ نظام العولمة. أي وضع استثنائي يجبر الجميع على الجلوس والاتفاق على صيغةٍ جديدة للتجارة والتبادل. ما تريد واشنطن فعله اليوم لا يختلف عن «تمثيل» آثار حربٍ عالميّة على الاقتصاد الدولي، ولكن عموم الناس (في الغرب وفي بلادنا) لم تصلهم بعد المفاعيل الماديّة و«الصدمة السعريّة» لحرب ترامب.
سنعطي تشبيهاً لتقريب الصورة: بدلاً من أن تفاوض اللاعبين على تعديل قوانين اللعبة بشكلٍ جماعيّ، أنت هنا تقوم بكسر طاولة اللعب بأكملها لكي تجبر الجميع على إعادة تركيبها، وأنت تراهن على أن قوتك ستعطيك القدرة على فرض الشروط التي تناسبك في النظام الجديد – أو تفترض أنّ حظوظك في مثل هذه المواجهة اليوم ستكون أفضل منها بعد عشر سنوات.
هذا يعني، أوّلاً، أنّ كلّ قواعد اللعبة التي نعرفها لم تعد موجودة، كان «السوق الحرّ» بمثابة إطارٍ مرجعيّ – بقواعده وتفاهماته ومؤسساته – واليوم الجميع يرتجل في مرحلة من «انعدام الوزن» ويكتشف ميادين جديدة للمواجهة، من التعريفات الجمركية إلى أسواق الحبوب والمعادن النادرة، واللوجستيات والسفن، وصولاً إلى حقائب اليد الفاخرة. حتى قواعد السوق التقليدية ومعادلاته، كالعلاقة بين سعر الدولار والذهب أو الدولار والفائدة، لا تعود «تعمل» حين يمرّ السوق بتغييراتٍ بنيويّة لا سابق لها.
ثانياً، هذا النمط من الحرب التجارية يعني أنّ لا أحد يمكنه أن يتوقّع بدرجةٍ من الوضوح ما الذي سيخرج من الجانب الآخر. اللاعبون أنفسهم لا يعرفون (نحن يمكن أن نحلل نواياهم ومصالحهم وما الذي يسعون إليه، ولكن لا أحد سيحصل على كلّ ما يريده)، ولا الاقتصاديون ولا البنوك ولا المؤسسات الدولية تعرف؛ فكمية المتغيرات هنا كثيرة لدرجة تجعل أي تنبؤ على المدى المتوسط والبعيد ضرباً من المستحيل (كتبت في الماضي عن حدود «القدرة التنبؤية» للعلوم السياسية، وكيف أن علماء السياسة أنفسهم يسخرون من الأمر، فما بالك بتوقعات المحلّل التي تصلك على «واتساب»؟).
المسألة معقّدة بدرجة تعقيد «سلاسل التوريد» العالمية التي تتشابك حول الكوكب اليوم. كما هو معروف مثلاً، فإنّ التجارة البينيّة بين الدّول لم تعد حقّاً «ثنائية» وبينيّة، ومفعول الجمارك لم يعد كما كان في الماضي: حين تستورد أميركا جهازاً إلكترونياً قيمته مئة دولار من الصين، فهي تستورد ربّما عشرين دولاراً قيمة مضافة من الصين، والباقي مكوّنات وبرامج من اليابان وكوريا وأميركا أيضاً، وقد تمّ تصديرها إلى الصين وتركيبها في الجهاز قبل شحنه، أما الشركة التي تمتلك ماركة الجهاز وتبيعه للمستهلك وتجني أكثر الأرباح، فهي غالباً أميركية («آبل» مثلاً). بمعنى آخر، حين تفرض رسوماً عالية على استيراد هذه السلع فأنت فعلياً تعاقب «حلفاءك» وشركات التقانة الأميركية أكثر مما تعاقب الصين (التي دورها قد يقتصر على استضافة خطّ التجميع).
من جهةٍ أخرى، قد تكونون سمعتم أنّ الصّين منعت شركاتها من شراء طائرات «بوينغ» المدنيّة، واعتبر الكثيرون ذلك انتصاراً غير مباشرٍ لغريمتها الأوروبية «ايرباص». ولكنّ ترامب يقدر بالمقابل على منع الصين من الاستحصال على طائرات «ايرباص» أيضاً: من الأمور البديهية في صناعة الطيران أنك حين تشتري «ايرباص» فإنّ ما يقارب نصف مكوّنات الطائرة سيكون أميركياً، وحين تشتري طائرة «بوينغ» فإنّ قسماً مشابهاً من مكوناتها منشأه أوروبيّ. لهذا السبب، لا يهتمّ الغربيون كثيراً إن «سبقت» شركةٌ الأخرى في المبيعات، المهمّ هو أن يحافظوا على هذا الاحتكار الثنائي، وأن تتقاسم شركاتهم كامل عائدات سوق الطيران المدني، وأن يجري ذلك ضمن قدرٍ مقبولٍ من المنافسة (وإن تعثّرت واحدةٌ منهما بشكلٍ جدّيّ، تقوم حكومتها بإنجادها عبر عقودٍ عسكريّةٍ مربحة).
حتّى نأخذ خطوةً إلى الوراء، هناك في كلّ يومٍ احتمالٌ بأن يصاب دونالد ترامب بالذّعر ويتراجع، بخاصة حين يزداد اضطراب الأسواق أو يبدأ تذمّر الناخبين؛ وقد نجده فجأةً يقوم بطرد فريقه الاقتصادي معلناً تغيير أهدافه، أو يلوم المصرف الفدرالي لأنه لم يتعاون معه (ولا ريب في أنّ هذا ما تراهن عليه بيجينغ وغيرها عبر سياسات العرقلة ومدّ المحادثات). ولكن إن قرّر الرئيس الأميركي فعلاً أن لا عودة إلى الوراء – وبعد حدٍّ معيّن لا يعود الموضوع خياراً – فلا مناص من التحذير بأنّ من يدخل، عن وعيٍ ونية مسبقة، مواجهةً من هذا النوع يكون لا ينوي، كما يقول المصريون، «يجيبها البرّ». وهو يعرف ثمن خسارة رهانٍ بهذا الحجم، عليه وعلى أميركا، وأن أدوات المواجهة هنا ليست الديبلوماسية والصفقات وحدها، بل التصعيد والتهديد، والإيلام المتبادل، والرهان على أنّ وضع غيره سيكون أكثر هشاشة من وضعه.
في كلّ يومٍ احتمالٌ بأن يصاب ترامب بالذّعر ويتراجع، وحين يزداد اضطراب الأسواق أو يبدأ تذمّر الناخبين؛ قد نجده فجأةً يقوم بطرد فريقه الاقتصادي معلناً تغيير أهدافه، أو يلوم المصرف الفدرالي لأنه لم يتعاون معه
هذا كلّه سينتج أياماً عصيبةً ومثيرة، فيما الإمبراطورية تدخل طوراً جديداً مجهولاً في علاقتها مع العالم. علينا أن نذكّر – للمرّة الألف – بأنّ تحوّلات نظام الهيمنة وأزماته لا تعني في ذاتها «نهاية» أيّ شيء.
ما قلناه في المقال الماضي عن استخدام جدليّة «التناقضات» في فهم الصّين ينطبق أيضاً على الإمبريالية. أيّ منظّرٍ عارفٍ سيشرح لك أنّ الهيمنة، بطبيعتها، تستولد المقاومة والأزمات والحروب، بعضها سيكون «روتينياً» والآخر صراعيّاً حادّاً. لا أحد يتخيّل حالة هيمنة تكون مطلقة، كاملة، مستقرّة، بلا تناقضات وتحديات، باستثناء التبسيطيين من ذوي «العقل السكوني» (التعبير هنا للرفيق نجيب نصر الله، سمعته منه وأعجبني وإن كنت لا أعرف ما يعنيه بالضبط – هو بالطبع كان يستخدمه ضدّي). تاريخ الرأسماليّة، مثلاً، كلّه تاريخ أزماتٍ وانهيارات وتحوّلات، ولكنها لا تزال معنا إلى اليوم.
والنقطة الأهمّ هي أنّه حتّى لو افترضنا – كتجربة عقليّة – أنّ «هذه المرّة ستكون مختلفة»، وجاءتنا رسالة من المستقبل تؤكّد أنّ الرأسمالية ستنتهي فعلاً بعد ثلاثين أو أربعين سنة، فهذا ليس له أيّ معنى سياسي على الإطلاق: لا هو يقلّل من مشكلاتنا القائمة ولا يغيّر شيئاً في ما يتوجّب علينا فعله اليوم. المشكلة، بتعابير أخرى، هي أنك إن كنت لا تفكّر بمنهجية، وتخلط بين التحليل والعرافة، فسوف تجد دائماً إشاراتٍ وعلاماتٍ من حولك تؤيّد أيّ سرديّةٍ تشاء.
القادم الجديد
بدايةً، صناعة السيارات هي في ذاتها قطاعٌ مهمٌّ ومعتبر في الاقتصاد العالمي. نحن نتكلّم على ثمانين أو تسعين مليون سيارةٍ جديدة تخرج من المصانع كلّ سنة، قيمتها لا تختلف كثيراً عن قيمة سوق النفط الخام بأكمله (وهي أكثر تركّزاً منه). من ناحيةٍ ثانية، هي أيضاً مثالٌ على الصناعات العالية القيمة التي تحتاج إلى تكنولوجيا ومهارات تراكمية وشبكة توريدٍ هائلة (من المعادن إلى الميكانيك إلى الجلود والأقمشة، والسيارات الكهربائية الحديثة أصبحت أيضاً عبارةً عن بطاريات وكمبيوتر).
أذكر في أواخر التسعينيات حين كانت شركاتٌ مثل «بي أم دبليو» تدشّن مصانعها الجديدة وتكرّر أن امتيازها الحقيقي هو في العملية الصناعية التي تتقنها، وأن خطوط الإنتاج لديها لا مثيل لها في العالم. أنت لا تحتاج إلى تصميم سيارةٍ ناجحة وتصنيعها بإتقان فحسب، بل إلى إنتاج الملايين منها بفعالية وتنافسية.
أخيراً، فإنّ سوق السيارات الصيني – وهو الأكبر في العالم – يمثّل «مختبراً» مثالياً حتى نتعرّف إلى مستقبل الصناعة ونقيّمها، إذ تتنافس فيه الماركات الصينية والغربية على قدم المساواة (الماركات الأجنبية مثل «تويوتا» و«فولكسفاغن» يتمّ إنتاجها داخل البلد بالتعاون مع شركات صينية، وتُباع كسيارات محلية الصنع).
علينا، أيضاً، أن ننسى الصور النمطية التي نحملها عن السيارات الصينية وفكرة أنها تنافس فقط على السعر وليس على الجودة، هذا كان قبل سنتين، والأمور هناك تتغيّر بسرعة. أصبح من المعروف في الصين وبين العارفين في الصناعة أنّه، في المواصفات والتصنيع والتفاصيل، لا تقلّ الشركات الصينية الجديدة (مثل «نيو» أو «لي» أو «بي واي دي») عن مثيلاتها الغربيّة بشيء، بل وتفوقها في بعض المجالات (وأنا هنا أثق بمراجعات المحترفين وتقييمهم، وكلّهم غربيّون، وليس مراجعات جاري).
من المعروف أن الشركات الصينية أصبحت تهيمن على الفئة الرخيصة من سوق السيارات. في وسعك اليوم أن تحصل على سيارة كهربائية صينية صغيرة، من إنتاج شركة مرموقة، بـ6 أو 7 آلاف دولار. لا أحد يمكن أن ينافس مثل هذه الأسعار. هناك مثلاً جيب صيني من شركة غير معروفة، يشبه إلى حدّ بعيد جيب «سوزوكي» الشهير («جيمني»)، وهو كهربائي ببطارية قوية، وشاشات كبيرة للتحكّم وكلّ هذه الأمور، ولكن ثمنه أكثر بقليل من 13 ألف دولار (وأسعار سيارات البنزين التقليدية أكثر تنافسية، إذ في الصين منها فائض إنتاجٍ كبير).
ولكن القصّة الكبيرة اليوم هي أنّ الماركات الصينيّة بدأت تفعل الأمر ذاته في كلّ الفئات. حتّى زمنٍ قصير، كان «حائط الدفاع» عند الشركات الغربية هو أمورٌ مثل النوعية والإتقان والفخامة، ولكن الواضح أن هذا الحاجز قد زال. سوق السيارات الصيني هو الأكبر في العالم بلا منازع: أكثر من ثلث السيارات التي يتم إنتاجها سنوياً تُباع داخل الصّين، وحتى سنة أو سنتين، كانت شركة مثل «فولكسفاغن» تصرّف أربعين بالمئة من إنتاجها في السوق الصيني، و«بي أم دبليو» و«مرسيدس» وغيرها ليست خلفها بكثير (هذا يشرح أهمية سوق الصين بالنسبة إلى هؤلاء المصدّرين، ولماذا كان الأوروبيون دوماً مترددين في فتح مواجهات تجارية مع بيجينغ).
حتّى فترةٍ قريبة، كانت أكثر السيارات الخاصة التي تراها على طرقات الصين تنتمي إلى هذه الماركات الغربية، وكانت تحتكر بالكامل خيارات الطبقات الوسطى والمترفة. ولكن منذ ما يقارب العام، أصبحت مبيعات الشركات الغربية في الصين تنهار انهياراً تاريخيّاً – هبوطٌ يقارب العشرين بالمئة في كلّ فصل. والسبب هو ظهور أكثر من مئة صانع سيارات صينيّ في السنوات الماضية، يتسابقون يومياً في رفع المواصفات وخفض الأسعار: أنت اليوم لا تجد جيباً صينياً يشبه الـ«رانج روفر» ويحاول منافسته، بل تجد عشرة نماذج مختلفة في الفئة نفسها (ما أزال أكتشف كلّ يوم شركات سيارات صينية لم أكن أعرف بوجودها، ولا ريب في أن أكثرها سوف يندمج أو يزول مع اشتداد التنافس وانتقاء الرابحين).
على طريقة «تويوتا» و«لكزس»، أصبحت الشركات الصينية التي تنافس عادةً في الفئات الرخيصة والمتوسّطة، مثل «غيلي» و«شيري» و«بي واي دي»، تنشئ ماركاتٍ خاصّة لإنتاج سياراتٍ فخمة، تستعرض فيها قدراتها على أعلى مستوى (لدى «بي واي دي» اليوم ماركتان من هذا النوع وليس واحدة، «دِنزا» و«يانغ وانغ»، وهدفها منافسة أمثال «مرسيدس» و«أودي» و«بورش» – ثمن جيب «يانغ وانغ» الكبير يقارب الـ150 ألف دولار، هو فعلياً «رولس رويس» أو «بنتلي» على هيئة جيب كهربائي رباعي الدفع). شركات التقانة الكبرى، مثل «هواوي» و«شياومي» قد دخلت أيضاً المضمار: سيارة «شياومي» الجديدة هي من الأكثر مبيعاً في الصين، وقد تعرّض المدير التنفيذي لـ«فورد» لانتقاداتٍ حادّة أخيراً حين اعترف أنه، في الأشهر الأخيرة، يستخدمها أساساً حينما يقود بنفسه.
صناعة السيارات هي في ذاتها قطاعٌ مهمٌّ ومعتبر في الاقتصاد العالمي. نحن نتكلّم على ثمانين أو تسعين مليون سيارةٍ جديدة تخرج من المصانع كلّ سنة، قيمتها لا تختلف كثيراً عن قيمة سوق النفط الخام بأكمله
شركات السيارات العالمية تنظر إلى هذه التطوّرات ككارثةٍ حقيقيّة بالمعنى المالي، وحركة أسهمها تعكس هذا الواقع. المفارقة هي أنّ نتائج هؤلاء لا تزال ممتازة في موطنها الأصلي، أوروبا واليابان، وخصوصاً شمال أميركا حيث تبيع هذه الشركات الكثير من السيارات الكبيرة المربحة (من عوارض الفوارق الاجتماعية المتزايدة في أميركا اتساع حجم الطبقة التي تنفق أكثر من أربعين وخمسين ألف دولار على سيارتها). لكنّ هذا النموّ ينقلب إلى السالب حين يُدخل السوق الصيني في الحسبان، والمشكلة الأكبر هي في النظر إلى المستقبل القريب، والتنافس مع الصينيين في أسواق الدول الناشئة، بل وفي أوروبا ذاتها (السيارات الصينية ممنوعة فعلياً من الدخول إلى أميركا).
والبوادر واضحة في أسواقٍ مثل المكسيك والبرازيل وغيرها، حيث أصبحت السيارات الصينية تنافس على الهيمنة بعد أن كانت حصتها – قبل سنواتٍ قليلة – تقترب من الصّفر. بالمناسبة، من الأسواق التي تحاول الوكالات الصينية اقتحامها بكثافة حالياً هو سوق الخليج «المغري»، حيث تفتتح مختلف الشركات الصينية منافذ لها هذه الأيام. حتّى شركة «هونغتشي»، التي كانت تتخصص بإنتاج السيارات الرسمية لكبار الشخصيات في الصين، قد افتتحت وكالاتٍ لها في الكويت وغيرها، وأصبح في وسعك أن تحصل على السيارة التي يركبها كبار الكوادر في الحزب الشيوعي بأقلّ من 25 ألف دولار (أما السيارة التي يستخدمها شي جينبينغ نفسه، أو أعضاء اللجنة المركزية، فهي أغلى ثمناً بكثير).
أن تعجبك «مرسيدس» أكثر أو نظيرها الصيني هي مسألة تتعلّق بالذوق والتفضيلات ولا تهمّنا كثيراً هنا (لا تثقوا أصلاً بأي شيءٍ أقوله في هذا الإطار، أنا لا أقود ولم أمتلك سيارة في حياتي). ما أعرفه، أخي العربي، هو أنك حين تشتري سيارةً فأنت لن تكون أكثر حرصاً وتمحيصاً من المواطن الصيني. في مقابلةٍ أخيرة عن صناعة السيارات، كانت لهجة المدير التنفيذي لـ«ستيلانتس» (تمتلك «فيات» و«جيب» و«كرايسلر» وغيرها) متشائمة بل و«جنائزية»، والسؤال الجاثم هو عن المنافسة الصينية ومستقبل الشركات الغربية معها.
قال المدير إن المنتجين الصينيين يمتلكون امتيازاً سعرياً عليهم يقارب الثلاثين بالمئة. هذا بالمعنى التجاري يعتبر حاجزاً لا يمكن تجاوزه، وسوف أحاول أن أترجمه بمثالٍ عملي: لدى «بي واي دي» سيارة جيب كبيرة، هي من فئة وحجم جيب «برادو» من «تويوتا». المواصفات متشابهة وبعض المراجعين يجزمون بأن السيارة الصينية تتفوق في بعضها. ولكن المسألة ليست في المقارنة بين المنتجين المتشابهين، بل في أن سعر جيب «بي واي دي» هو أقل من نصف سعر مثيله من «تويوتا» (30 ألف دولار تقريباً مقابل أكثر من 65 ألف دولار للـ«برادو» من دون أي زوائد). أي إن معادلة الشراء ليست في أن تختار بين هذا وذاك، بل بين فئتين سعريّتين مختلفتين: ستحصل على «برادو الصيني» بسعر «فيات» صغيرة، وبسعر «برادو» ستشتري «مرسيدس»، وبسعر الـ«مرسيدس» ستحصل على «مايباخ».
المفاجأة والردّ
خلف نظرية التجارة الحرّة قاعدة أساسية مفادها أنّ التجارة الدولية هي نشاطٌ يفيد جميع المشاركين فيه، ولهذا إنه من الواجب تشجيعها في كلّ الظروف. هناك مثالٌ كلاسيكي يستخدم لإثبات هذه الفكرة هو أنه حتى لو افترضنا وجود بلدين في العالم فقط، والاثنان ينتجان ثلاث سلعٍ متماثلة لا أكثر، والبلد الثاني أكثر تنافسية منك فيها كلّها، فسيظلّ من مصلحتك أن تتبادل معه وتتاجر (التعليل تقنيّ بعض الشيء مختصره أنك ستتخصّص في السلع التي أنت فيها «أكثر تنافسية» بالمعنى النسبي المقارن، وشريكك سيفعل الأمر ذاته، فتزداد فعالية الاقتصاد لدى الاثنين).
من جهةٍ أخرى، النظرية العامة عن الجمارك تقول إنّ الحواجز الجمركية تنفع في حالة الدول النامية التي لا تمتلك بعد قاعدة علميّة وصناعيّة، إذ إن صناعاتها لن تمتلك فرصةً للانطلاق من دون حمايةٍ من منافسة الخارج. في الوقت ذاته، يضيف الاقتصاديون، لا تلعب الجمارك أي دورٍ إيجابي في حالة الدول المتقدّمة الثريّة. البعض يعتبر هذه الجمارك ضريبةً على المستهلكين والبعض الآخر يحذّر من أنّه يجعل شركاتك أقلّ فعالية وقدرة على الابتكار (تخيّل الفارق بين أن تنافس باستمرارٍ في سوقٍ فيه سيارات صينية وأوروبية ويابانية تتصارع، وبين أن تكون شركاتك محميّة في سوقها الثري من منافسة الغير ولا تحتاج إلى مواكبتهم).
ما يفعله دونالد ترامب اليوم يتناقض ظاهرياً – بالكامل – مع هاتين القاعدتين (على الهامش: يعترف ترامب وفريقه بأن التعريفات لن تظلّ في مستوياتٍ عالية، أقلّه للدول التي ستدخل مع أميركا في تفاهمات جديدة. حتى المنظرون لاستخدام التعريفات الجمركية أداةً اقتصادية، مثل ستيفن ميران ووزير الخزانة سكوت بسنت، يعتبرون أن الجمارك قد تكون «مفيدة» إلى حدٍّ معيّن، سقفه العشرون في المئة، تصبح بعدها مؤذيةً للاقتصاد). ولكنّ السؤال الأساسي هنا هو عن الصّين وليس عن الجمارك، وبيجينغ تعرف أنها الهدف النهائي خلف كلّ هذه المناورات و«إعادة الترتيب» للنظام العالمي.
ما يعنينا من مثال صناعة السيارات هو أن نذكّر بأنّ ظهور الصّين بهذا الشكل لم يكن أمراً «طبيعياً» أو «متوقّعاً»، كما يستسهل الكثيرون اليوم تقديم المسألة. يشدّد الأكاديمي فنغ وانغ على أنّ صعود الصين بكلّ مراحله كان مفاجئاً للجميع، فقد فاجأ المؤسسة الغربية وخالف توقعاتها مثلما فاجأ القادة الصينيين أنفسهم؛ وأيّ باحثٍ يقول لك إنّه كان يتوقّع وصول الصين بسلاسةٍ إلى هذا المكان، أو إنه كان يعرف – منذ عشر سنواتٍ – أن المصانع الصينية ستصبح أكثر كفاءة من المصانع الألمانية وتنافس سياراتها، فهو يبالغ أو يكذب عليك.
مفاجآت المستقبل قد تكون صادمةً أكثر وهذا ما تحاول واشنطن التحكّم فيه (والصين اليوم في الكثير من المجالات لم تعد تعتمد تطوّراً «خطياً»، حيث تتبع من سبقها وتقلّده، بل أصبحت تنتج تقنياتها وأساليبها الخاصة للوصول إلى ما تريد، في أشباه الموصلات والبطاريات والطاقة النووية وغيرها). والموضوع ليس تجارياً واقتصادياً فحسب، على أهمية هذه العوامل، بل هو يتعلّق بالأمن والحرب والسيطرة على المعلومات أيضاً – الحرب، كما نرى من حولنا، أصبحت «صناعيةً» باضطراد، وقدرة الإنتاج قد تقرر من يمتلك الأفضلية في ميادين المستقبل بين قوىً متقاربةٍ تكنولوجياً.
الفكرة الأساسية هي أنّ الأمور التي كنا نقولها في السنوات الماضية، عن أنّ السوق الدولي ليس ملعباً مستوياً يتنافس فيه اللاعبون، وأن الرأسمالية تعمل على «طوابق» مختلفة متمايزة، وأنها تقسيمة سياسية، هذا كلّه لم يعد كلاماً نظرياً بل هو الخطاب الرسمي للبيت الأبيض اليوم. في بداية الحرب التجارية، شرح نائب الرئيس الأميركي بوضوحٍ في مؤتمرٍ صحافي هذه الفكرة، قائلاً ما معناه «إننا في الماضي سمحنا للصين وغيرها بالاستحصال على الصناعات البسيطة، والاعتقاد كان أننا سنتخصص في النشاطات العالية القيمة بديلاً منها، فإذ بهم يزحفون صوب هذه القطاعات وينافسوننا فيها». هنا لبّ الموضوع والسؤال التاريخي، وهو لن ينتهي باتفاقٍ حول الجمارك.