تتزاحم التحدّيات الاقتصادية التي يُواجهها لبنان مع إقفال باب العام 2023، الذي ترك للسنة الجديدة إرثاً كبيراً من الأزمات ليس من السهل الوصول إلى حلول قريبة لها في ظلّ عقم سياسي وخواء فكري يعجز عن ربط قرار سياسي جدّي بالحلول التقنية ومن الطبيعي أن تتعلّق بالانتظام المالي أو إعادة الثقة بلبنان والقطاع المصرفي بعد التعثّر الكبير منذ بداية الأزمة. ولن يكون الوضع المالي هو المشكلة فقط مع ازدياد منسوب الهجرة التي توحي بشيخوخة قريبة تضرب كل مقوّمات الصمود الاقتصادي إضافة إلى العثرات الصناعية والزراعية وتراجع نسبة النمو ما ساهم بتراجع لبنان إلى مصافّ الدول المنكوبة.
الملفّ السياسي «مكربج البلد»
قبل الحديث عن التحدّيات الاقتصادية، تطرّق وزير الاقتصاد والتجارة السابق منصور بطيش خلال حديثه الى «نداء الوطن» الى الوضع في البلد فقال: «يعيش لبنان حالة خواء فكري وعُقم سياسي. الحلول التقنية بالتأكيد موجودة، إلا أنها وحدها لا تَكفي، والمَطلوب أن تترافق مع مناخ سياسي يساعد على وضعها موضع التنفيذ. المشكلة تكمن في أنّ كل حلّ يُطرح لمصلحة البلد والمجتمع يتعرَّض إلى الإجهاض على يد المنظومة المتحكّمة بمفاصل الدولة، فهي تَحول دون أي إصلاح جدّي بالتنسيق والتعاون مع المستفيدين من الوضع الراهن ومن عدم كشف حقائق الجريمة المالية التي ارتكبَت بحقّ لبنان وشعبه على يد من كان يفترض بهم وفق القانون حماية حقوق الناس. للأسف، «حاميها حَراميها»، ولا نهوض يُرتجى من دون مساءلة مسبِّبي السُقوط».
ويعتبر بطيش خلال حديث مع صحيفة «نداء الوطن» أن «الانطلاق اليوم بأي حلّ يقتضي عدم فصل الاقتصاد عن السياسة والملف السياسي «مكربج» في البلد. وأي خطة أو خطوة أو موقف يتناول الملف الاقتصادي، المفتَرض أن يأخذ شؤون المواطنين والمجتمع في الاعتبار، هذا ولم يُحَقق فيه أي إنجازات على الرغم من مرور أربعة أعوام وثلاثة أشهر على 17 تشرين 2019. هذا يعود بنتائج تخدم مصالح القوى المتحكِّمة بمفاصل البلد والتي أوصلته إلى الانهيار الذي يشهده حاليّاً، وبطبيعة الحال، من أودى بالبلد إلى هذا الوضع المأسوي لا يمكنه الوصول به إلى الخلاص».
لا يمكن «الإتّكال» على قطاعات محدودة
ويأسف بطيش على»وجود تحدّيات كبيرة تعيق تطبيق الحلول في لبنان. نسمع أحاديث يوميّة عن زيارة أعداد السيّاح والمغتربين والانعكاسات الإيجابية لذلك على الدورة الاقتصادية. لكن، هؤلاء هم أولادنا وإخوتنا الذين غادرونا وتركوا بلدهم للبحث عن فرص عمل في الخارج وهم يأتون لتمضية أسبوعين أو ثلاثة كحدّ أقصى مع أهلهم خلال عيدي الميلاد ورأس السنة، وشهر أو اثنين خلال فصل الصيف ليعودوا ويغادروا في النهاية. لا يمكن لاقتصاد بلد بأكمله «الاتّكال» على قطاعات محدودة ولفترة شهرين من أصل 12 لتحسين حركته، بل هو بحاجة إلى الارتكاز على الإنتاج المحلّي المستدام وعلى «الإطمئنان» السياسي والأمان على المديين القريب والبعيد، وهذه الحالة لا تنطبق على الوضع الراهن». معتبراً أن «المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية الموجودة ما زالت هي نفسها من دون أن تقوم الجهات المسؤولة بأي إصلاحات بل هي تكتفي بالرهان على لعبة الوقت في حين أن الشعب بمعظمه بات يئِنّ من الفقر والعوَز والهوان». ويعود بطيش ويشدّد على عدم «إمكانية تجاهل الجانب الاجتماعي للتحديات التي يعيشها البلد، صحيح أن طابعها العام يبدو اقتصاديّاً، غير أنّها أيضاً تحدّيات اجتماعية على مختلف الأصعدة وأوّلها السياسية والتربوية والاستشفائية والبيئية»، مضيفاً «المأساة الخارجة عن إرادتنا ليست فقط الوحيدة المسؤولة عن إيصالنا إلى هذا القعر، بل إنّ المتحكِّمين بمفاصل البلد في السياسة والمال والاقتصاد والقضاء تهرّبوا ولا يزالون من مُحاسبة المسؤولين عن الواقع، ومن المستحيل أن تكون هناك جريمة من دون وجود مجرمين».
الحلّ «رؤيوي» من خلال استراتيجية متكاملة
والحلّ في نَظر بطيش «يجب أن يكون رؤيويّاً يضع استراتيجية متكاملة للسنوات المقبلة، وأن تكون الحلول اقتصادية واجتماعية وتربوية واستشفائية وبيئية، وخصوصاً سياسية، لنتمكن من طمأنة الناس إلى الغد والمستقبل وليعود أولادنا إلى بلدهم. أما البقاء على هذه الحالة ومن دون إرساء سلّم قيم يُعيد الاعتبار لمفاهيم العمل في الشأن العام، فيعني أنّ لا رجاء بمستقبل أفضل. إنّ طريقة التفكير الراهنة وثقافة الربح السريع وتفضيل الجَماعة والطائفة على الوطن، مصيرها الحتمي الفشل، وما من أمل ما لم نغيّر ما بأنفسنا من أجل بناء بلدنا».
التحدي الأكبر
من جهته رأى المُحلل المالي د. غسان شماس أن «التحدي الأكبر الذي يجب التحدّث عنه لهذا العام من أجل استتباب وانتظام أمور البلد على مختلف الأصعدة مبنيّ على عمودين: الأوّل مالي والثاني نقدي. المصرف المركزي هو المسؤول عن الاستقرار النقدي، أما الدولة فمن واجبها اتّخاذ خطوات وإجراءات مقابلة له تؤدي إلى الاستقرار المالي».
الفرق بين النقد والمال كبير جداً
ويشير شماس خلال حديثٍ مع «نداء الوطن» إلى أن «الفرق بين النقد والمال كبير جداً، بمعنى أنّه لا يمكن للبلد الاعتماد على المصرف المركزي حصراً، على اعتبار أنه عمل على خطة نقدية أدّت إلى انتظام الكتلة النقدية في البلد، حيث انخفضت من 75 تريليون ليرة لبنانية إلى ما يقارب الـ 40 أو 45 تريليون ليرة، الأمر الذي ساهم في لجم سعر صرف الدولار الموازي، من دون أن تضع الدولة في المقابل خطة مالية. الأكيد أن ما من استقرار مالي في البلد وما من إجراءات مالية تؤسس لإنتاجية الثروة عبر خطة اقتصادية مالية، في حين أن المسؤول عن ذلك غير معروف. إذاً، يترتّب علينا تحديد الفرق الكبير جداً بين المستويين النقدي والمالي والتمييز بينهما، خصوصاً أن لبنان بحاجة إلى خطة مالية وأخرى نقدية تسيران بالتوازي، للتخفيف من التحدي الاقتصادي الذي يواجه شعبه والوصول به إلى برّ الأمان».
التحدّي الأكبر: عدم إنتظام الرواتب
والسّؤال الأهمّ بالنسبة إلى شماس: «هل هناك خطة اليوم لتعديل الرواتب فتصبح متوازية ما بين القطاعين العام والخاص؟»، مضيفاً «هذه المسألة تؤثر على البلد بأكمله وتعرقل العمل فيه، فالدولة تغضّ النظر عن موظّفيها الذين يعملون يوماً أو اثنين في الأسبوع»، مذكّراً «ألا علاقة للمصرف المركزي بهذا الملف، بل هو من مسؤوليات الدولة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الانتظام المالي في القطاع العام في لبنان، إذ إن الرواتب غير منتظمة وهذا من أكبر التحدّيات التي نواجهها محلياً، من هنا تأتي أهمية وضع خطة مالية توضح قيمة الموازنة سنوياً، انطلاقاً من تحديد قيمة الرواتب مقابل المداخيل من ضرائب وغيرها لمعرفة ما إذا كان هناك عجز في الموازنة، وهذا من الخطوات الأساسية التي تساعد على تحقيق الانتظام المالي». ويشرح أن «الموازنة شبيهة بميزان له جهتان يجب أن تكونا متوازيتين هما المصروف والمدخول، في حين أن الموازنة التي تتمّ مناقشتها قد تكون أوزانها حبراً على الورق لأن الأرقام فيها غير دقيقة».
بناءً على ما تقدّم، يُعيد شماس التشديد على أن «التحدي الكبير هو اعتماد خطة مالية للسير بالبلد نحو التعافي، وعندما يتمّ إنجاز ذلك تكون الخطوة اللاحقة استعادة الودائع. وأهمّ ما تحتاج إليه الخطة المالية هو موازنة شفّافة وإدارة مالية للعجز وسببه المباشر هو أن المصروف يفوق الدخل. مزاريب الهدر كبيرة في لبنان كذلك الميزان التجاري يعاني عجزاً حيث إن قيمة الصادرات والواردات متفاوتة جدّاً، والخطر المحدق يكمن في طبع الليرة والسعي لتأمين الدولار».
أساس الأزمات وعمقها «أخلاقي»
من جهته، رأى الإقتصادي روي بدارو في حوار مع «نداء الوطن» أن «طابع الأزمات المتعدّدة التي يُواجهها البلد أساسها وعمقها أخلاقيان. هذه الأزمات الأخلاقية تمظهرت في الحياة السياسية وفي عدّة إدارات منها الحكومات السابقة والحالية، وإدارة مصرف لبنان السابقة، وإدارة لجنة المال والموازنة وغيرها من اللجان أيضاً. العمل على حلّ لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال ابتكار وطن جديد لا يساهم في بنائه من هدمه، ذلك انطلاقاً من التجربة الحالية إذ شارك من يدّعون بأنهم البنّاؤون بهدم الهيكل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للبلد».
وبالعودة إلى قضية المصارف، المطلوب وفق بدارو هو التواضع «ما من جهة أو مواطن يريد إغلاق المصارف، لكن لا تستطيع النكران بأنه لا يمكنها تحمّل جزء من المسؤولية حيث ستخسر رساميلها ضمن إعادة هيكلة عادلة مجتمعياً، وتعيد الثقة على المديين المتوسط والطويل».
«جمعية جديدة»
ويتابع بدارو: «هناك مصارف تواطأت مع مصرف لبنان للاستفادة بـ»فحش»، مقابل مصرفيين آخرين جيّدين يمكن أن تضع الدولة يدها بيدهم لبناء بلد المستقبل واقتصاده. والجدير ذكره أن التواصل مع المصارف لا يمكن أن يتمّ عن طريق «جمعية المصارف»، بل يجب إنشاء مجموعة أخرى خارج الجمعية تعترف بأخطائها وتعلن استعدادها للمشاركة في التوصّل إلى حلّ. اليوم موقع البلد في قعر الهاوية ولا يُمكنه استعادة عافيته لأن الأساس فيه الثقة، وهي فقدت نهائياً إن كان من إدارة وزارة المال أو وزارات أخرى وحتّى من اللجان النيابية. فالمواطنون غير مقتنعين بإدارة الحكومة الحالية أو حتى بحكومة جديدة كما هو ظاهر، فهي بحاجة إلى أشخاص رؤيويين ونزيهين، من دون أن يكون لديهم أي مطالب أو طموحات للحصول على مناصب معينة بل يجب أن يكون هؤلاء من المفكّرين والمثقفين الكبار والمتمرّسين في الشأن العام وهناك منهم في جميع الطوائف».
ويلفت بدارو إلى أن «لبنان بلد صغير يتأثّر بأي حدث خارجي، لذا إن لم نتمكّن من تحييد أنفسنا بطريقة معيّنة وإن لم تستلم إدارة جيدة فمصير البلد سيكون صعباً. أوّلاً، يجب إعادة بناء نظام مالي جديد لأن النظام الحالي مع الموازنة غير مجدٍ، خصوصاً أن الطريقة المتّبعة لإنجازها تعود إلى منتصف القرن العشرين، أي أن طريقة الدراسة الخاصة بالموازنة للبرلمان عمرها مئة سنة، في حين أنه يجب اتّباع سياسة جديدة في مختلف الوزارات إن كان العمل أو الصحة أو غيرهما، لكنّ الثقة بقدرة المسؤولين الحاليين على القيام بذلك معدومة. لذا، أستبعد أن يكون الحل قريباً وما من مؤشرات إيجابية لعام 2024».
نحّاس: خسائر الودائع لا تساوي خسائر الهجرة وتفكّك المؤسسات العامة
يعتبر وزير العمل والاتصالات السابق شربل نحّاس أن «الأمور لا تقاس كل عام بعامه، بخاصة عندما تكون هناك تغييرات عميقة جدّاً يمتدّ مفعولها على فترات طويلة. في لبنان نعيش هذا الواقع على ثلاثة أصعدة متلازمة، وكل صعيد يمكنه بمفرده تغيير مسار تاريخ بلد بأكمله. أوّلاً، لدينا قضية إعلان إفلاس الدولة التي أدّت إلى تراكم خسائر هائلة». فخسائر الودائع وعلى الرغم من أهميّتها، كما قال نحّاس لـ»نداء الوطن»، «لا تساوي الخسائر الناتجة عن هجرة مئات الألوف من اللبنانيين، لا سيما من فئة الشباب، يضاف إليها تفكّك أغلب المؤسسات العامة من تعليم وجامعات وإدارات وخدمات أساسية. وتداعيات هذه التطوّرات ستمتدّ لعقود، فالموضوع ليس قضية عام أو اثنين لأن الخسائر التي تراكمت بحكم عجز النظام السياسي عن التعامل مع الوقائع من دون وضع خطط استباقية ولا معالجة جعل المجتمع يرضى بالخسائر الهائلة ويتصرف على أساسها».
الهجرة المزدوجة
وأضاف: «أما القضية الثانية فتتمثل بأن البلد شهد نوع هجرة نادراً عالمياً وهي الهجرة المزدوجة: الوافدة وتحديداً اللاجئين السوريين والخارجة وهي بشكل أساسي ناتجة عن سفر الشباب والشابات اللبنانيين الأمر الذي يؤثّر على البنية العمرية والبنية المهنية والقطاعية. ومفاعيل هذه القضية ستمتدّ أيضاً لعقود مقبلة. وفي السياق نسمع بعض المواقف والتعليقات التي لا تمتّ للواقع بصلة مثل القول إن السوريين سيعودون إلى بلدهم أو أن الشباب المهاجر يزور لبنان في الصيف والأعياد مع تنظيم حملات سياحية لتشجيعهم على ذلك. التعامل مع هذا التغيّر العميق يستدعي وجود دولة، تبدأ على الأقل بالقيام بإحصاءات شفافة تحدّد عدد المقيمين وعدد المهاجرين وتوزيعهم العمري والمهني والتعليمي.
وبالنسبة إلى المسألة الثالثة فتتمثل بإعادة تشكيل المنطقة التي تشكّلت منذ ما يقارب المئة عام بالحديد والنار والدم. دول المنطقة تغيّرت جذرياً، فسوريا مقسّمة إلى مئات الأجزاء، العراق ساحة للتجاذب بين إيران والولايات المتحدة، ولبنان يعيش على هدنة هشّة بمحيطه وداخله. بالتالي، أصبحت هذه المنطقة مهمّشة بين دول إقليمية تفرض توازناتها، ولبنان الذي كانوا يتغنون به بأنه مدخل الشرق والغرب أصبح عملياً جزيرة».
ويختم نحاس «القضية ليست قضية تفاؤل أو تشاؤم، بل قضية جرأة بالمعرفة وبالتعامل مع الوقائع على المستويات الثلاثة التي عدّدناها سابقاً: الإفلاس، الهجرة المزدوجة وإعادة ترتيب المنطقة. كل هذه العوامل تستدعي وجود أداة حيوية هي دولة تكون نقيضاً لائتلاف الطوائف والهدنة الهشة والتهرّب من المسؤوليات».