أظهر مؤشر جمعية «تجار بيروت – فرنسَبنك لتجارة التجزئة» للفصل الثاني من سنة 2023 أن الاستهلاك تحسّن بشكل خجول في ظلّ تباطؤ نسبة التضخّم الفصلية، ليُقفل المؤشر على 0.64 للفصل الثاني من سنة 2023 مقابل 0.83 في الفصل السابق له.
وأبرز ما جاء في تقرير المؤشر: «إن أرقام الأعمال الإسمية (Nominal) المجمّعة لقطاعات تجارة التجزئة ما بين الفصل الثاني من 2022 والفصل الثاني من 2023 تشير الى أن تلك الأرقام قد زادت بنسبة 17.97% بعد استثناء قطاع المحروقات، الذي سجّل هو الآخر زيادة بلغت 9.35% من حيث الكميات التي تمّ بيعها خلال هذا الفصل (للتذكير: إن هذا الارتفاع يمثل نسبة الارتفاع في أرقام الأعمال الإسمية بالليرة اللبنانية قبل التثقيل).
إنما بعد عملية تثقيل تلك الأرقام بنسبة مؤشر غلاء المعيشة للفترة المعنية (+ 253.55%)، يتبيّن أن الأرقام الحقيقية قد سجّلت بالفعل انخفاضاً بالمقارنة مع الفصل الثاني للسنة السابقة، ولو بوتيرة أقل من الفصول الماضية، وذلك في كافة قطاعات الأسواق التجارية باستثناء قطاع الوقود حيث تمّ، كما ذكرنا أعلاه، تسجـيل زيادة في حجم الكميات. كل ذلك جاء في فترة لم يطرأ فيها أي تطوّر جوهري على أيّ من الأصعدة في لبنان – لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا مالياً ولا نقدياً. جاء ذلك أيضاً في غضون شبه ثبات سعر صرف الدولار في الأسواق والإعلان عن نيّة الحكومة برفع قيمة الدولار الجمركي، فسارع الكثيرون لشراء ما هم بحاجة إليه أو يبتغونه – لا سيّما من سيّارات وسلع معمّرة أخرى، قبل أن ينفد المخزون القديم منها المسعّر قبل زيادة الدولار الجمركي وقبل أن تصيب هذه الزيادة الأسواق.
وفي الفترة نفسها، كَثُرت المؤشرات والتوقّعات الإيجابية بعد الكلام عن ارتفاع حجم التحويلات وأغلبيتها المطلقة من المغتربين في الخارج الى عائلاتهم وأهلهم في لبنان (تشير آخر الإحصاءات الرسمية الى أن حجم هذه التحويلات كان قد بلغ 6.4 مليارات دولار خلال العام 2022، وقد يسجّل مزيداً من الارتفاع خلال العام 2023)، كما زادت أعداد اللبنانيين المقيمين الذين تعاقدوا للقيام بالعمل عبر الإنترنت مع شركات في الخارج والحصول على أجور بالدولار، وتزايدت أيضاً أعداد الشركات الخاصة التي لجأت الى صرف جزء أو كامل رواتب موظفيها بالدولار الأميركي.
أضف الى ذلك الحديث المتزايد عن مؤشرات وتوقّعات إيجابية جداً عن موسم اصطياف زاهر مع قدوم أعداد غفيرة من الزائرين لا سيّما اللبنانيين المغتربين. فحلّ جوّ من التفاؤل الحذر في المجتمع التجاري وعمد العديد من التجّار من مختلف القطاعات إلى التجهيز والتحضير للموسم المقبل من جيوبهم واحتياطياتهم. وسط تلك الأجواء التفاؤلية، جاءت نسبة الزيادة في مؤشر التضخّم ما بين الفصل الثاني لسنة 2022 والفصل الثاني لسنة 2023 لتسجّل مستوى 253.55% وهي زيادة مساوية تقريباً للنسبة التي كنّا قد شاهدناها في الفصل السابق.
إنما نسبة التضخّم هذه قد شهدت تباطؤاً ما بين الفصل الأول والفصل الثاني لسنة 2023، حيث بلغت 22.61%، بعد أن كانت قد سجّلت زيادة فصلية بلغت 81.40% في الفصل السابق، ولربّما كان لهذا التباطؤ أثر إيجابي على نفوس المواطنين وبالتالي على حركة الأسواق.
نسب التضخّم السنوية لا تزال مرتفعة، لا سيّما في قطاعات تُعتبر أساسية في حياة المجتمع، كقطاع الصحة أو المواد الغذائية أو النقل أو طبعاً التعليم.
ويعود ذلك الى عدّة عوامل، منها عوامل مالية ونقدية واقتصادية، كحجم الكتلة النقدية التي كانت لا تزال مرتفعة في الفصل الثاني لهذه السنة، رغم محاولات تدخّل البنك المركزي (الناجحة) وعمليات «صيرفة»، واتّساع حجم الاقتصاد النقدي (الذي يبدو أنه تجاوز الـ50 % وفقاً لتقارير دولية)، والدولرة التي باتت تقدّر بما يزيد عن 50% من الناتج القائم، مع تداعيات هذا الواقع النقدي الواضحة في الأسواق لجهة تنامي الاقتصاد غير الشرعي على حساب الاقتصاد «الأبيض».
إنما هنالك عوامل سياسية أيضاً كان لها تأثير طبيعي حتى لو لم يكن علمياً أو محاسبياً، مثال انعدام التوافق على انتخاب رئيس للبلاد، وتعدّد المواقف الممانِعة أو المعارِضة حيال اجتماعات وقوانين وسياسات وتسميات جوهرية لحسن أداء وحوكمة السلطة، الأمر الذي يؤدّي الى ضبابية الرؤية المستقبلية والاحتياط والحذر على كل الأصعدة فانكماش للعرض وضغوط تصاعدية على الأسعار.
وفي ظلّ نسبة كهذه من التضخّم، ومهما تمكّن التجار من تحقيقه لناحية أرقام الأعمال خلال هذا الفصل (حوالي + 17.97% عن أرقام الفصل الثاني للسنة السابقة وفقاً للأرقام الواردة دون تثقيل)، فإنهم يجدون – بعد التثقيل بنسب التضخّم الخاصة بقطاعاتهم، أن تلك الأرقام لا تزال تنخفض، حتى لو كان هنالك بعض التحسّن في الحركة الاستهلاكية وفي النتائج بالمقارنة مع الفترات السابقة.
ومن جهة أخرى، بلغ التراجع الحقيقي (أي بعد التثقيل بنسبة التضخّم) للنشاط المجمّع نسبة – 36.45% ما بين الفصل الفصل الأول والفصل الثاني لسنة 2023 (بالمقارنة مع نسبة – 80.92% في الفصل السابق الذي كان سيئاً جداً)، بعد استثناء قطاع الوقود والمحروقات حيث تمّ تسجيل زيادة بنسبة + 3.35% من حيث الكميات.
وإن دلّت نسبة التراجع هذه على شيء فهو على تحسّن نسبي في الاستهلاك، حتى لو كان لا يزال أقل بكثير من المطلوب.