حالها حال مختلف القطاعات اللبنانية، شهدت السياحة تغيرات جذرية طوال السنوات الماضية. تتجلّى هذه التغيرات خلال فصل الصيف وفترات الأعياد. إذ تحوّلت مناطق سياحية إلى أراضٍ مهجورة، مقابل أخرى باتت تتصدّر المشهد السياحي رغم حضورها الخجول قبل سنوات إلى الوراء. فغالباً ما تتماهى أنماط السياحة مع طبيعة السيّاح، وهو ما شهده لبنان خصوصاً بعد غياب الخليجيين في السنوات الماضية، لأسباب سياسية بالدرجة الأولى.
فعلى الرغم من الحرب القائمة في الجبهة الجنوبية، والتي تتمدّد رقعتها بصورة شبه يوميّة، سُجِلت حركة سياحية مقبولة في لبنان خلال شهر كانون الأول (فترة عيد الميلاد – رأس السنة). تعكس هذه الحركة الواقع السياحي الجديد في لبنان. إذ ينحصر النشاط السياحي في المناطق نفسها التي هيمنت على الموسم الصيفي. أما المناطق التي استبشرت بعطلة نهاية السنة لتعويض خسائر الصيف، فستضم الموسم الحالي إلى سابقاته من المواسم المخيّبة.
بحمدون نموذجاً
قد تكون جولة سريعة في منطقة بحمدون كفيلة بإظهار الواقع الجديد في المنطقة الجبلية، التي شُطِبت عن الخريطة السياحية رغم جذبها فئات كبيرة من السياح “أيام عزّ” القطاع. بعد موسم صيفي مخيّب، لم تسجّل فيه أي حركة تُذكر، يلخص ظلام السوق الرئيسي واقع الموسم الحالي. غالبية المحلات مقفلة، والطرقات فارغة، والأبنية مهجورة من سكانها. وحدها شجرة الميلاد، المقدّمة من إحدى الجامعات الخاصة في المنطقة، تشير إلى أنّ الفترة الحالية فترة عيد. اعتادت المنطقة على السائح الخليجي، وفشلت طوال السنوات الماضية في جذب اللبنانيين أو المغتربين الذين باتوا يشكلون العمود الفقري للقطاع.
تتحدث نورا أبو حرب، وهي صاحبة محل تجاري أقفل أبوابه قبل فترة، عن انعدام الحركة في بحمدون، مشيرة إلى أنّ “أكثر من 50 في المئة من المحلات أقفلت أبوابها بعد العام 2020”. تقارن واقع اليوم بالعام 2018، الذي شهد حركة جيدة قبل التدهور الدراماتيكي وانعدام الحركة. تشير أبو حرب إلى “فشل المهرجانات والمعارض في جذب السياح، مع الإشارة إلى غياب أهالي بيروت عن المنطقة أيضاً، على الرغم من تملّك عدد كبير منهم لعقارات وبيوت”. يختصر وجود الخليجيين على نسبة ضئيلة من الكويتيين، الذين يزورون لبنان للاطمئنان على أملاكهم. تجدر الإشارة إلى أن الواقع لا يختلف كثيراً في المناطق المحاذية، لا سيما في عاليه وصوفر وحمانا…
الأشقر: مناطق لم تتكيّف
يستذكر رئيس اتحاد النقابات السياحية ورئيس المجلس الوطني للسياحة، بيار الأشقر، النقلة النوعية التي شهدها قطاع السياحة في الفترة الممتدة بين 2011 و2013، مع تقلّص أعداد الخليجيين الوافدين إلى لبنان. يلفت الأشقر إلى أن “العديد من المناطق غابت عن الخريطة السياحية، بسبب عدم تكيّفها مع تطورات القطاع القائم اليوم على المحليين، لا الخليجيين أو الأجانب”.
ويشدّد الأشقر، خلال حديثه مع “المدن”، على “أهمية الاستثمارات، لا سيما المستثمر المحلي الذي عليه إثبات نجاحه قبل التفكير في جذب المستثمر الخارجي أو الأجنبي”. ويعتبر أن نوعية المنتج هي العامل الأساسي في جذب السياح، ويأتي من بعدها دور التسويق ودراسة السوق، مع الإشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه المصداقية مع الزبون من خلال الابتعاد عن تضليله.
إيجابيات الـ”نيو سياحة”
على المقلب الآخر، ورغم التأثير السلبي الذي لحق نسبة كبيرة من المناطق، حملت الـ”نيو سياحة” مؤشرات إيجابية، لا سيما في نهضة قطاع بيوت الضيافة Guest Houses. طوال السنوات الماضية، استحوذت هذه البيوت على اهتمام السياح، وتحديداً المغتربين الذي يفتقدون هذا النوع في بلدان اغترابهم. شجّعت هذه البيوت على نهضة المناطق الريفية النائية، وحوّلت السكان المحليين (خصوصاً النساء) إلى قوى عاملة منتجة، قادرة على جذب السياح مهما كانت مسافاتها بعيدة.
يعمل أصحاب هذه البيوت على التميّز في مشاريعهم، إذ راحوا يتنافسون بين بعضهم البعض، وباتت البيوت الفريدة الأكثر جذباً للناس. وعلى الرغم من تحليق أسعارها، التي تفوق الفنادق بكثير، لا تزال هذه البيوت تحافظ على زوارها، وهم ما يترجم بالإعلان عن افتتاح بيوت جديدة مع كل موسم سياحي. تزامناً مع هذه الـ”موضة”، يزداد الاهتمام العام بالسياحة البيئية والرياضية، مما له من آثار إيجابية على المناطق الريفية، التي غُيّبت لعقود عن الخريطة والخطط السياحية في لبنان.
في ظل الغياب التام للخط الحكومية، تلعب المبادرات المحلية دوراً محدوداً في تنشيط الحركة السياحية في المناطق التي لطالما اعتادت على السائح الخليجي. أما اليوم، فالأهم هو إدراك أصحاب المنشآت السياحية أن عودة الخليجي مؤجلة حتى إشعار آخر، وعلى من يريد الاستمرار التعلم من المناطق التي واكبت متطلبات الـ”نيو سياحة” في لبنان.