تحول عالمي جديد مع مغادرة الصين نادي الدول النامية

تشهد الساحة الاقتصادية الدولية تحولًا محوريًا مع خروج الصين من تصنيف الدول النامية، وهو تطور يعكس صعودها كقوة مكتملة، ويُعيد ترتيب التوازنات في منظومة التجارة العالمية. ولا يحمل بعدًا رمزيًا فحسب، بل يفرض تحديات جديدة على سياسات الدعم والامتيازات، ويثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات في ظل نظام دولي يعاد تشكيله.

قررت الصين التوقف عن المطالبة بالامتيازات المتاحة للدول النامية في منظمة التجارة العالمية، ما ينهي نقطة الخلاف مع الولايات المتحدة التي كانت عائقا أمام اتفاقهما بشأن إصلاح هذا الهيكل وهو تغيير طالما طالبت به الولايات المتحدة.

وقال رئيس الوزراء لي شيانغ خلال مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في وقت مبكر الأربعاء إن بلاده لن تطالب بحقوق “خاصة ومميزة” في مفاوضات المنظمة الحالية والمستقبلية، وفقا لوكالة شينخوا.

ويرى خبراء أن الخطوة تمثل لحظة فاصلة في تاريخ الاقتصاد العالمي، لما لهذا التحول من تأثير عميق على بنية التجارة الدولية وموازين القوى الاقتصادية ونظام الامتيازات الذي شكّل أحد أركان العلاقات الدولية لعقود.

واستفادت الصين، منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، من كونها تُصنف كدولة نامية، وهو ما منحها معاملة تفضيلية في العديد من الجوانب.

ومن أبرز ذلك فترات انتقالية أطول لتطبيق قواعد التجارة، وتخفيضات جمركية محدودة مقارنة بالدول المتقدمة، وحرية نسبية في دعم بعض القطاعات الإستراتيجية.

18.4 تريليون دولار الناتج المحلي الإجمالي لثاني أكبر اقتصاد في العالم بنهاية عام 2024

إلا أن التطورات المتسارعة التي شهدها الاقتصاد الصيني في العقدين الماضيين دفعت المجتمع الدولي، وبشكل خاص الدول الصناعية الكبرى، إلى التشكيك في استمرار استحقاق الصين لهذه الامتيازات.

وتصف الصين نفسها بأنها أكبر دولة نامية في العالم مع ناتج محلي إجمالي بلغ بنهاية 2024 حوالي 18.4 تريليون دولار، مستغلة هذا التصنيف لتولي دور قيادي في تمثيل الدول النامية الأخرى.

وصرح مسؤولون في وزارة التجارة الأربعاء بأن الخطوة تأتي في إطار “محاولة تعزيز نظام التجارة العالمي في وقت يتعرض فيه لتهديد حروب الرسوم الجمركية والتدابير الحمائية التي تتخذها الدول بشكل فردي لتقييد الواردات.”

ولم يذكروا الولايات المتحدة بالاسم أو فرض الرئيس دونالد ترامب رسومًا على العديد من الدول هذا العام، بما في ذلك الصين.

ولطالما جادلت واشنطن بضرورة تخلي الصين عن وضع الدولة النامية لأنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وتشمل مزايا هذا الوضع في منظمة التجارة العالمية متطلبات أقل لفتح أسواقها أمام الواردات وفترات انتقالية أطول لتنفيذ خطوات فتح الأسواق.

وتوفر منظمة التجارة العالمية منتدى لمحادثات التجارة العالمية وتنفذ الاتفاقيات، لكنها أصبحت أقل فاعلية، ما أثار دعوات للإصلاح.

ورحبت مديرة المنظمة نغوزي أوكونغو إيويالا بالقرار، واعتبرته في منشور على منصة إكس “ثمار سنوات طويلة من العمل الجاد،” معربة عن شكرها للقيادة الصينية.

ويأتي القرار في وقت مهم، حيث تضطر بكين، بسبب فرض واشنطن تعريفات جمركية أعلى، إلى توجيه المزيد من صادراتها إلى الاقتصادات الصاعدة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، وهو ما بدأ يواجه مقاومة في مختلف أنحاء العالم.

ومع رغبتها في التفاوض على اتفاقية تجارة أكثر استقرارا مع الأميركيين، من المرجح أن يكون هذا القرار محاولة لكسب ود ترامب.

واعترض الرئيس الأميركي بشدة على تصنيف الصين كدولة نامية في منظمة التجارة العالمية رغم اقتصادها القوي والتنافسي، معتبرا هذا التصنيف “غير عادل.”

والخطوة في المطلق تعد تحولًا إستراتيجيًا في موقعها داخل النظام الاقتصادي العالمي، لما لهذا التصنيف من تبعات على مكانة الصين في التجارة الدولية، والمساعدات التنموية، والمسؤوليات البيئية.

ولطالما استفادت الصين، بوصفها دولة نامية، من معاملة تفضيلية في المنظمات الاقتصادية الدولية، كمنظمة التجارة، حيث مُنحت فترات انتقالية أطول لتطبيق الاتفاقيات، وإعفاءات أو تخفيضات جمركية، ومرونة أكبر في حماية صناعاتها الناشئة.

ومع تجاوزها خلال السنوات الأخيرة معدلات النمو والدخل الفردي التي تميز الدول النامية، واحتلالها مراتب متقدمة في مؤشرات الاقتصاد العالمي، بدأ يتصاعد الضغط الدولي للاعتراف بها كدولة ذات اقتصاد متطور.

وأصبحت الصين، على نحوٍ متزايد، مصدرًا للقروض والمساعدة الفنية للدول الأخرى التي تسعى إلى بناء الطرق والسكك الحديد والسدود وغيرها من المشاريع الكبرى، والتي غالبًا ما تنفذها شركات صينية كبرى مملوكة للدولة.

وخروج أكبر اقتصاد في آسيا من هذا التصنيف يُفقدها بعض الامتيازات التجارية والتنموية، ويضعها في خانة الدول المُطالبة بمسؤوليات أوسع، خاصة في ما يتعلق بقضايا مثل التغير المناخي وتمويل التنمية في الدول الفقيرة، وضبط سياسات الدعم الداخلي.

ولكن الوضع الجديد قد يقلل من قدرة الصين على حماية صناعاتها المحلية بنفس الآليات السابقة، ما سيجعلها في منافسة أشد وأقوى مستقبلا، خاصة وأن لديها الأدوات التنظيمية والمالية والتكنولوجية للقيام بذلك.

كما أن هذا التحول يعكس تقبلًا عالميًا لحجم التأثير الصيني في الاقتصاد الدولي، خاصة مع كونها أكبر مصدر عالمي، وفاعلًا محوريًا في سلاسل التوريد والصناعات الثقيلة والتكنولوجيا.

وعلى الجانب السياسي قد يؤثر التغير على علاقات الصين بدول الجنوب العالمي، التي ما زالت تصنف كدول نامية، إذ قد يُنظر إليها على أنها خرجت من هذا الإطار، ما قد يضعف خطابها التضامني مع هذه الدول داخل المنتديات الدولية.

في المقابل قد تستثمر هذا التحول لتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية مسؤولة، تسعى إلى لعب دور أكبر في إعادة تشكيل قواعد الاقتصاد العالمي، لاسيما من خلال مؤسسات بديلة مثل بنك التنمية الآسيوي أو مبادرة الحزام والطريق.

واقتصاديًا، ستكون هناك تحديات داخلية للصين في التكيف مع هذه المكانة الجديدة، خاصة أن الفروقات التنموية بين أقاليمها ما زالت قائمة، وهناك قطاعات كبيرة ما زالت تعتمد على دعم الدولة والتصدير كمحرك أساسي للنمو.

وهذا العام أقر وزراء التجارة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بمن فيهم وزراء الولايات المتحدة والصين، بأهمية المنظمة في تعزيز قضايا التجارة العالمية، وضرورة الالتزام بقواعدها، داعين إلى “إصلاح شامل وفعال يهدف إلى تحسين جميع وظائف المنظمة.”

ورغم التحول الهائل الذي شهدته الصين على مدار أربعة عقود، والذي جعلها أكبر اقتصاد عالمي في مجال التجارة والصناعة، لا تزال الأمم المتحدة تصنفها كدولة نامية.

وتأتي الصين في المرتبة 70 عالميا من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لصندوق النقد الدولي، متقدمة قليلا على الجبل الأسود وتركمانستان، بينما تأتي خلف صربيا.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةعمالقة المال يستشعرون تأثيرات إصلاح ترامب لنظام تأشيرة الكفاءات
المقالة القادمةذروة تاريخية لسعر الذهب وسط رهانات بتخفيف القيود النقدية