أنسانا “كورونا” الأزمة الإقتصادية-النقدية-المالية، وأنزلها الى المرتبة الثانية في سلم الأخبار والأولويات، إلا ان هذا لا يعني انها اختفت أو أصلحت نفسها بنفسها. فالأزمة النقدية تحديداً، تتعمق يوماً بعد آخر، وتركها من دون معالجات جدية سيعمق الأزمة ويدفع باتجاه انهيار شامل، في ظل أو بعد الانتهاء من مفاعيل فيروس كورونا.
معالجة مشاكل القطاع المصرفي تعتبر أولوية. فهذا القطاع المنكشف على ديون الدولة والقطاع الخاص ما زال صامداً، فنسبة الديون المعدومة (غير القابلة للتحصيل) للقطاع الخاص لم تتعد لغاية اللحظة 10 في المئة (من مجمل دين يصل الى 43.9 ملياردولار)، بالمقارنة مع نسب فاقت الى 35 في المئة في الارجنتين عام 1995 و50 في المئة في قبرص عام 2011 عندما تعرضت لأزمات اقتصادية ومالية مماثلة. لكن هذا الواقع لا يدعو للتفاؤل، فالمصارف من الجهة الأخرى أقرضت الدولة بشكل مباشر نحو 28.6 مليار دولار وأودعت في مصرف لبنان نحو 76 ملياراً، أقرض بدوره جزءاً منها للدولة واستخدم الجزء الآخر في المحافظة على ثبات سعر الصرف، وبالتالي فان هذه الأموال لم تعد موجودة ومن الصعب إرجاعها مع تعثر الدولة ودخولها في عملية إعادة الجدولة، وهنا تحديداً جوهر المشكلة.
الحاجة الى 25 مليار دولار
فاعادة الهيكلة وتخفيض الدين العام إلى مستوى مستدام بحدود 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بدلاً من المعدل الحالي الذي فاق 175 في المئة “سيكون له تأثير كبير على ميزانيات البنوك ورأسمالها التشغيلي، ومعدلات ربحيتها. ولن ينفع في هذه الحالة استمرار تعليق المركزي العمل بمعايير التقارير المالية الدولية IFRS التي تظهر تدهور الاسعار السوقية الحقيقية لأصول المصارف بالمقارنة مع قيمتها الدفترية، وسيؤدي استمرار هذا الاجراء الى قطع التعامل مع المصارف اللبنانية من قبل الخارج”، بحسب ورقة “إنقاذ القطاع المالي اللبناني: قضايا وتوصيات” التي أعدتها مجموعة من الاقتصاديين المستقلين.
إنطلاقاً من هذا الواقع يظهر ان القطاع المصرفي يحتاج ما بين 20 إلى 25 ملياراً لإعادة رسملته وانقاذ الودائع. وفي ظل انعدام قدرة الدولة على التدخل كما حدث في اكثر من دولة فان الخسائر يجب ان تتوزع بحسب سيبال رزق إحدى المشاركات في اعداد “الدراسة” على: “المساهمين أولاً ومن ثم المودعين ثانياً عن طريق BAIL IN أو HAIR CUT مع مراعاة صغار المودعين واعطائهم الافضلية دائماً”. وذلك مع مراعاة 3 شروط أساسية: “توخي الحذر أثناء أي عملية إنقاذ من أجل توفير الشفافية الكاملة بشأن الملكية الجديدة، تجنب الملكية المركزة، وحماية الملكية الجديدة من التدخل السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر”. ذلك ان ترك القطاع المصرفي منفرداً في إعادة الهيكلة والرسملة من دون خطة حكومية سيستغرق وقتاً طويلاً وسيتحول لبنان حينها إلى اقتصاد نقدي، مترافق مع نمو اقتصادي سلبي لسنوات قادمة. وسيؤدي في النهاية الى الانحلال الاقتصادي والحاق خسائر فادحة في المودعين، وصعوبات خطيرة على جميع المواطنين. كيف نعيد هيكلة القطاع المالي؟
تُظهر “الدراسة” ان حجم الديون على البنوك ومقدار حاجتها للرسملة سوف يحددان طريقة التعامل معها وبالتالي سيرسمان طريق مستقبلها. فيجب على المصارف السماح للمساهمين الحاليين بممارسة حقوقهم الاستباقية لإعادة رسملة البنوك بمواردهم الخاصة أو عن طريق إيجاد مستثمرين جدد، وبالتالي تقليل العبء على القطاع العام، والوكالات المتعددة الأطراف، والجهات المانحة والمودعين. وفي حال العجز عن الرسملة يمكن تصفية بعض البنوك من قبل الحكومة، ذلك مع امكانية بقاء مدرائها في أماكنهم حتى تستمر المعاملات التجارية العادية. بنوك أخرى سوف تتحول الى Bad Bank او بنوك رديئة، ما يعني تحويل المصارف المتعثرة وغير القادرة على تكوين المؤونات اللازمة، الى شركات مساهمة، كما حدث سابقاً في فرنسا وألمانيا وإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لمعالجة الأزمات المصرفية المشابهة للوضع اللبناني الحالي. أما في حالة عجز المصارف عن اعادة الرسملة وبقاء حقوق الملكية في المنطقة الحمراء، بالرغم من بيع الأصول الرئيسية أو بعد تحويلها إلى “بنك سيئ”، فيمكن تنفيذ ما يعرف بالـ bail in اي تحويل جزء من ودائع زبائن البنك إلى أسهم. وهنا تعتمد عملية الإنقاذ على تقلص مطلوبات البنك، التي تتكون بشكل رئيسي من الودائع، عن طريق تحويل جزء منها إلى حقوق ملكية للبنك.
الدمج آخر المراحل
الورقة تخلص إلى “ان سوقاً مثل لبنان يتطلب عدداً أقل من البنوك”. الا ان هذا لن يتم بالضرورة من خلال عمليات الدمج والاستحواذ التقليدية كما حصل مع بقية الدول التي عانت من أزمات مشابهة، لان معظم البنوك الكبيرة في لبنان معرضة بشكل كبير لدين البنك المركزي والحكومة والقروض المتعثرة، وهي غير قادرة على لعب دور الدامج. لذلك يعتقد معدو الدراسة “أنه يمكن تحقيق الاندماج بشكل أفضل من خلال مزيج من تفكيك البنوك الأصغر حجماً، وحل بعض البنوك، ودمج البنوك الكبيرة التي من شأنها أن تسهل جمع أموال جديدة للأسهم، وخفض التكاليف مع عدد أقل من الفروع المطلوبة في عالم رقمي متزايد”. وفي هذه الحالة “ستتمكن البنوك الأكبر أيضاً من تحمل تكاليف الاستثمار في أنظمة تكنولوجيا المعلومات الحديثة وأنظمة إدارة المخاطر بمرور الوقت، ويمكن اعتبارها بمثابة أرصدة أفضل من قبل المراسلين الأجانب”.