تحوّلات سوريا واقتصاد لبنان: الدين العام والعمالة والإعمار

في المساحة التي يتداخل فيها الاقتصاد بالسياسة، كان من المتوقّع أن يرصد الجميع تداعيات التحوّل الكبير الذي شهدته سوريا، على أوضاع لبنان الماليّة والنقديّة في المستقبل. المسألة المرتبطة بالمصارف والعلاقة الماليّة بين بيروت ودمشق لم تكن سوى رأس جبل الجليد الظاهر للعيان، فيما تطول لائحة الملفّات الاقتصاديّة الأخرى التي ستتأثّر حكمًا بالحدث السوري، إمّا بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر عبر تأثير هذا الحدث على الداخل السياسي اللبناني. مسائل مثل سوق العمالة في لبنان، أو مصير الاصلاحات الماليّة المعلّقة في بيروت، أو تداخل مسارات إعادة الإعمار في البلدين، ستكون كلها خاضعة لتبعات الحدث السوري الكبير. وعند الدخول في التفاصيل تتباين التحليلات، وإن كان ثمّة تفاؤل عام يسيطر على معظمها.

سقوط الأسد ومصير الإصلاحات اللبنانيّة المؤجّلة
خلال الأشهر الماضية، اعتاد اللبنانيون على متابعة أخبار التقلّبات التي تطرأ على أسعار سندات اليوروبوند، بوصفها مؤشّرًا على كيفيّة تفاعل كبار المستثمرين الدوليين مع الأخبار المحليّة. بصورة أوضح، كانت تلك التقلّبات تعكس انطباعات كبرى الصناديق المستثمرة في تلك السندات، ومدى تفاؤلها بقرب التوصّل إلى معالجات تتيح إعادة هيكلة الدين العام اللبناني بالعملات الأجنبيّة، الذي امتنعت الدولة عن سداده منذ العام 2020. على هذا النحو مثلًا، تناقلت الأوساط الاقتصاديّة المحليّة أخبار ارتفاع أسعار هذه السندات مع توسّع الحرب على لبنان، ثم تسجيلها قفزة أخرى مع التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار. وكان تلك التحوّلات مثيرة للدهشة، بحكم تزامنها أحيانًا مع أحداث شديدة السلبيّة، مثل اتساع نطاق العدوان الإسرائيلي.

بعد سقوط العاصمة السوريّة بيد المعارضة المسلّحة صباح يوم الأحد الماضي، ثم فتح الأسواق يوم الإثنين، شهدت أسعار سندات اليوروبوند ارتفاعًا سريعًا إلى حدود الـ 11.78 سنتاً للدولار، أو 11.78% من قيمة السند الأسميّة، مقارنة بأقل من 10 سنت للدولار خلال الفترة التي تلت وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. وخلال اليومين الماضيين، استمرّت هذه السندات بتسجيل ارتفاعات متتالية، مع بعض التذبذبات صعودًا ونزولًا. مع الإشارة إلى أنّ أسعار هذه السندات لم تكن تتخطّى الـ 5.875 سنتاً للدولار قبيل توسّع الحرب على لبنان، أي قبل أن تشهد ارتفاعاتها المتتالية منذ ذلك الوقت.

باختصار، في الأسواق الدوليّة من يرى اليوم أنّ سقوط النظام السوري سيجعل البلاد أقرب إلى مرحلة إعادة هيكلة الديون العامّة، وعودة الدولة إلى سداد سندات اليوروبوند بعد التفاوض على قيمتها. وهذا ما يشبه رهان المستثمرين الدوليين على خلاصات وقف إطلاق النار، ومن قبلها خلاصات الحرب الإسرائيليّة –على بشاعتها- على لبنان. من الناحية العمليّة، يمكن القول إنّ هؤلاء المستثمرين يترقّبون مرحلة سياسيّة جديدة يمكن أن تصب لمصلحتهم، على مستوى تحريك ملف التفاوض حول الدين العام الذي يحملونه. وهنا، يعود النقاش إلى المساحة المتداخلة بين السياسة والاقتصاد.

تقرير “غولدمان ساكس”
في مطلع هذا الشهر، نشر “غولدمان ساكس” تقريرًا تحليليًا يتناول مستقبل الدين العام اللبناني، وآفاق سندات اليوروبوند. ووجد التقرير أنّ قيمة الاسترداد، أي القيمة التي يمكن أن تسددها الدولة لكل سند من سندات اليوروبوند، يمكن أن تصل إلى 24.9 سنتاً للدولار في السيناريو الواقعي، كما يمكن أن ترتفع إلى 36.4 سنتاً للدولار في حال وجود دعم خارجي للبنان.

وقيمة الاسترداد هذه، هي القيمة التي يُحتمل التوافق عليها بين الدولة والدائنين، في سياق عمليّة إعادة هيكلة الدين، والتي ترتبط بمتغيّرات مثل حجم الاقتصاد اللبناني وقدرة الدولة على سداد الديون. ولتحقيق هذه السيناريوهات، أشار التقرير إلى ضرورة إنجاز شروط معيّنة، مثل دخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي ومعالجة الشغور في المؤسسات الدستوريّة وغيرها.

بهذا المعنى، ما يراهن عليه المستثمرون اليوم هو حلحلة بعض الملفّات الاقتصاديّة والسياسيّة المعلّقة، إمّا بفعل الضغط الخارجي، أو بفعل تحييد بعض العوامل الخارجيّة التي أثّرت على الوضع اللبناني سابقًا. وبحسب هذا الرهان، يقود بالاتجاه نفسه سقوط نظام الأسد، ومن قبلها اتفاق وقف النار. بطبيعة الحال، تذهب بعض التحليلات السياسيّة إلى توقّع سيناريوهات أكثر تشاؤمًا، لكن مؤشّرات السوق المتاحة اليوم تذهب باتجاه هذا التحليل الأكثر اطمئنانًا.

ملفّات الاقتصاد الكلّي
على مستوى الاقتصاد الكلّي، ثمّة أسئلة حول التداعيات التي سيتركها التغيير في سوريا، على مسائل أخرى مثل العمالة في السوق المحلّي. فالعديد من القطاعات الاقتصاديّة في لبنان بدأت خلال الأيّام الماضي بتملّس بعض الضغوط، الناتجة عن عودة فئات عديدة من العمّال السوريين إلى بلداتهم ومدنهم، ولو لغايات الزيارة المؤقّتة أو تلمّس فرص العمل. ومن المعلوم أن جزءا كبيراً من اللاجئين السوريين امتنعوا عن زيارات من هذا النوع في السابق، لأسباب سياسيّة مرتبطة بوجود النظام القديم.

خلال الفترة المقبلة، سيكون على الاقتصاد اللبناني التأقلم مع احتمال تناقص أعداد العمّال السوريين الذين اعتمد عليهم الاقتصاد المحلّي، خصوصًا إذا شهدت سوريا استقرارًا سياسيًا يشجّع على عودتهم. وعلى هذا الأساس، سيتضطر بعض القطاعات الاقتصاديّة إلى الخروج من نمط الاعتماد على العمالة الفوضويّة وغير المنظّمة، وتحديدًا اللاجئة، في مقابل الاعتماد على عمالة لبنانيّة أو أجنبيّة مقوننة وأكثر تنظيمًا. وبالتأكيد، ستكون هذه الحاجة ملحّة أكثر، إذا دخلت سوريا في مسار مدعوم دوليًا لإعادة الإعمار خلال السنوات المقبلة. كما ستكون هذه الحاجة ملحّة أكثر أيضًا مع اتجاه لبنان إلى مرحلة إعادة إعمار المناطق المدمّرة بفعل الحرب الإسرائيليّة، وخصوصًا في ظل اعتماد قطاع البناء على العمالة السوريّة غير المنظّمة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةشقير يطالب بقرض ميسر للنهوض بالقطاع الخاص المنهك وتحديث القوانين
المقالة القادمةالخولي: تلزيم المسح الزلزالي للبلوك 8 يفتقد للشفافية