فعلها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فمرّر في الأسابيع الأخيرة قبل انتهاء ولايته كل ما يشتهي تمريره من تزوير في ميزانيّات المصرف المركزي، لتوزيع الخسائر المصرفيّة على هواه بمعزل عن أي خطّة ماليّة شفافة وواضحة.
في المرحلة الأولى، في بداية شهر شباط الماضي، أضاف دين الـ16.5 مليار دولار أميركي على الدولة اللبنانيّة، عبر احتساب كل عمليّات شراء الدولار التي قامت بها الدولة منذ 2007 كدين عام (راجع المدن). ثمّ وابتداءً من أوّل شهر حزيران، حوّل 42.24 مليار دولار من الخسائر المصرفيّة المتراكمة إلى دين متوجّب على الدولة أيضًا، فأعفى نفسه والمصارف التجاريّة من كتلة الخسائر هذه (راجع المدن).
ورغم عدم تفاعل المشهد السياسي العام مع هذه الأحداث، أبدت العديد من المصادر القانونيّة قلقها من تداعيات هذه الفضيحة المدويّة، التي يبدو أنّها ستطال بنيرانها كل ما يمتلكه مصرف لبنان من موجودات في الخارج، وخصوصًا الذهب وممتلكات شركة طيران الشرق الأوسط واحتياطات النقد الأجنبي. أمّا الأخطر، فهو أنّ هذه الألاعيب ستطيح بقوّة الدولة اللبنانيّة التفاوضيّة في وجه حملة سندات اليوروبوند، أي سندات الدين بالعملات الأجنبيّة، والذي يفترض أن يتم إعادة هيكلة دينهم وفق استحقاقات وفوائد جديدة.
الخطر على موجودات مصرف لبنان
يمتلك مصرف لبنان موجودات ضخمة من الذهب، تقارب قيمتها حاليًا –حسب أسعار السوق- نحو 17.85 مليار دولار. ومن أصل هذه الموجودات، يحتفظ مصرف لبنان بثلث الاحتياطات في الولايات المتحدة الأميركيّة، بقيمة تناهز الـ5.9 مليار دولار أميركي.
كما يمتلك مصرف لبنان نحو 9.4 مليار دولار من السيولة الجاهزة، المودعة في المصارف الأميركيّة والأوروبيّة كاحتياطات ماليّة بالعملات الأجنبيّة. وبالإضافة إلى هذه الموجودات، يحتفظ مصرف لبنان بملكيّة شركة طيران الشرق الأوسط، التي تملك بدورها موجودات في الخارج، ومنها الطائرات التي تتجوّل عبر مطارات العالم.
كما هو معلوم، وبمجرّد حصول الانهيار، وتخلّف الدولة اللبنانيّة عن سداد سندات اليوروبوند، أثارت تلك التطوّرات خشية البعض من إمكانيّة استهداف الدائنين ممتلكات مصرف لبنان في الخارج، ومنها الذهب والاحتياطات وممتلكات شركة طيران الشرق الأوسط، لمحاولة تحصيل حقوقهم من لبنان. مع الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك في الخارج أي موجودات ذات قيمة فعليّة، باستثناء السفارات المحميّة بالحصانة الدبلوماسيّة، وهو ما يرشّح ممتلكات مصرف لبنان لتكون المستهدف الأوّل من قبل الدائنين الأجانب.
ومنذ ذلك الوقت، ظلّ الجميع يتساءل عن سرّ صبر الدائنين حتّى هذه اللحظة، وعدم محاولتهم تحصيل حقوقهم بقوّة القانون، بالرغم من مرور ثلاث سنوات على توقّف لبنان عن تسديد السندات، وعدم إقدام الدولة على مفاوضتهم لإعادة هيكلة الدين. وبصورة أدق، كان السؤال الأساسي يتمحور حول سرّ عدم محاولتهم تجريد مصرف لبنان من أصوله في الخارج، لتحصيل حقوقهم.
الإجابة الأكثر واقعيّة على هذه التساؤلات كانت على الشكل التالي: يدرك الدائنون أنّ مصرف لبنان سيدافع عن نفسه، باعتباره مؤسسة مستقلّة ماليًا وقانونيًا عن الدولة اللبنانيّة، كحال المصارف المركزيّة الأخرى. وعلى هذا الأساس، قد لا تعطي محاكم نيويورك الدائنين صلاحيّة الحجز على أصول المصرف المركزي الموجودة في الخارج، تمامًا كما حصل بالفعل في قضايا أخرى. مع العلم أن عقود سندات اليوروبوند تعطي محاكم نيويورك حق النظر بهذه القضايا، في حين أن هذه المحاكم بالتحديد تحاول –حسب تجارب سابقة- تقييم مدى استقلاليّة هذا المصرف المركزي بالذات، ومدى انسجام موجوداته مع طبيعة عمله كمصرف مركزي، قبل البت بإمكانيّة الحجز على ممتلكات المصرف لتحصيل الديون المتوجّبة على الدولة.
أغلب الظن، كان الدائنون يتريّثون، بانتظار ارتكاب الدولة اللبنانيّة أو المصرف المركزي الخطأ المميت، الذي يسمح بالطعن باستقلاليّة مصرف لبنان الماليّة والقانونيّة، وهو ما يسمح لهم بالمطالبة بالحجز على أملاك المصرف لتحصيل حقوقهم المتوجّبة على الدولة اللبنانيّة.
الجرم المميت
ويبدو أنّ رياض سلامة قد فعلها أخيرًا، وارتكب الجرم المميت الذي سيعطي الدائنين السلاح الأقوى في وجه مصرف لبنان. فتزوير الميزانيّات على مراحل منذ شهر شباط الماضي، وتحميل الدولة اللبنانيّة كلفة الخسائر المصرفيّة على شكل ديون، هو الطعنة المطلوبة بالاستقلاليّة الماليّة والقانونيّة للمصرف المركزي. وهذه الطعنة، هي ما سيسمح للدائنين بالمطالبة بالحجز على ممتلكات المصرف، ومنها الاحتياطات والذهب وموجودات شركة طيران الشرق الأوسط.
فعلى أي أساس سيدافع مصرف لبنان عن موجوداته، بحمايتها أمام المحاكم، وبوصفه مستقلاً ماليًّا وقانونيًا عن الدولة اللبنانيّة، إذا كان المصرف نفسه يحمّل الدولة أعباء الخسائر المصرفيّة بألاعيب محاسبيّة وتزوير صريح مخالف للقانون؟ وكيف سيرضى الدائنون بشطب جزء من دين الدولة المستحق لهم، في سياق إعادة هيكلة الدين، ومن دون مصادرة أملاك مصرف لبنان، إذا كان المصرف نفسه يزيد –في المقابل- ديون الدولة لتحميلها خسائر المصارف؟
باختصار، لن يكون أمام المصرف المركزي الكثير من الأدوات للدفاع عن أصوله، بعدما حوّل الخسائر المصرفيّة إلى ديون عامّة، بقيود محاسبيّة جرت داخل الميزانيّة. ولن يكون أمام المحاكم الأجنبيّة الكثير من الحجج المقنعة، لتحييد أملاك مصرف لبنان عن مشكلة الدين العام، بوصفه مؤسسة مستقلّة، إذا كان المصرف يزيد الدين العام لتحميله خسائر المصارف.
ولن يرى حملة سندات الدين الكثير من العدالة في مزاحمة السندات التي يمتلكونها، من قبل ديون عامّة جديدة خلقها المصرف المركزي، من دون أن يُسمح لهم بمزاحمة المصرف المركزي على موجوداته!
وهكذا، سيطرح حملة السندات المعادلة التالية أمام محاكم نيويورك: إذا كان المصرف غير مستقل عن الدولة، وإذا كان بإمكانه تحميل الدولة –المدينة لهم أصلًا- ديوناً جديدة، فمن الطبيعي أن يطالبوا بتحميل أصول المصرف المركزي كلفة الديون المتوجّبة على الدولة.
إضعاف موقف الدولة أمام الدائنين
المشكلة الثانية، هي أنّ الدولة ستكون في موقع حرج وضعيف أمام حملة السندات، بعد انطلاق المفاوضات، وبعد أن جرى تزوير ميزانيّات مصرف لبنان على هذا النحو. ففكرة التفاوض على إعادة هيكلة الدين العام ستقوم على إعطاء الدائنين وعد بتسديد الدين في المستقبل، بعد شطب جزء من الديون العامّة وتخفيض القيمة الإجماليّة للدين، وبعد الاتفاق على استحقاقات وفوائد جديدة. وسيضحّي الدائنون في هذه الحالة بجزء من حقوقهم، مقابل التمكّن من تحصيل الجزء الآخر منها.
أمّا الآن، وبعد التزوير الأخير في ميزانيّة المصرف المركزي، كيف سيوافق حملة السندات على شطب جزء من حقوقهم، لاستعادة قدرة الدولة على تسديد الديون، إذا كانت الدولة في طريقها لتحمّل ديون جديدة تقارب قيمتها الـ1.78 مرّات الدين القديم؟ وهل بإمكان الدولة إقناع هؤلاء بالتضحية بتسوية كهذه، إذا كانت تتحمّل –وعن غير وجه حق- عبء زيادة دينها لمصلحة أطراف أخرى؟ وكيف ستعد الدولة حملة السندات بتسديد ديونها في المستقبل، بعد أن ضخّمت دينها العام على هذا النحو غير المنطقي؟
بهذا الشكل، سيكون سلامة قد وضع مصرف لبنان وممتلكاته في دائرة الخطر، ما يعني التفريط بآخر ما يمكن الرهان عليه لتحصيل جزء من حقوق المودعين. وسيكون سلامة قد وضع الدولة اللبنانيّة وقدرتها التفاوضيّة في وجه الدائنين في دائرة الحرج، ما سيصعّب سلوك مسار التعافي المالي في المستقبل. ببساطة شديدة، سيتحمّل لبنان، وعلى مدى سنوات طويلة، كلفة ما يجري اليوم من ألاعيب وتزوير محاسبي داخل مصرف لبنان.