بعد سبعة أشهر من الجهود المضنية التي بذلتها الدول في محاصرة تداعيات جائحة كورونا على الاقتصادات العالمية عبر ضخّ أكثر من 18 ترليون دولار، يتساءل مراقبون وخبراء: متى سيمكن القضاء على فيروس كوفيد 19، وكيف ستقاوم الاقتصادات الكبرى العشرين التي يعتمد عليها النمو التجاري والمالي العالمي، آثار الجائحة إلى حين القضاء على الفيروس وعودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته.
على صعيد التوقيت أو المدى الزماني الذي ستأخذه الجائحة إلى حين القضاء عليها، يرى الدكتور مارك ليبستش، الأستاذ في جامعة هارفارد، في تعليقات نقلها مصرف غولدمان ساكس الاستثماري الأميركي، أن هنالك توقعات متزايدة بأن يجد العالم حلاً للجائحة في العام المقبل، ولكنه يقول: “لن نتأكد من ذلك قبل منتصف العام المقبل 2021”.
من جانبه، يقول زميله، الدكتور ريتشارد هاتشيت: “أعتقد أننا قد نحصل على عقار للفيروس بمنتصف العام المقبل”، وهي توقعات مقبولة وسط التسابق بين شركات الأدوية العالمية ومختبرات الجامعات المرموقة التي تجري تجارب منذ شهور على مجموعة من اللقاحات المضادة لجائحة “كوفيد 19”.
لكن إلى حين وجود هذا العقار والتأكد من فعاليته، فإن السؤال هو: كيف ستتصرف الاقتصادات الكبرى؟
حسب تحليلات، فإن الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
الأولى: مجموعة الاقتصادات الصناعية الناضجة التي تملك “عملات الاحتياطي العالمي”، وعلى رأسها أميركا، التي تملك الدولار، ومنطقة اليورو التي تملك “عملة اليورو”، واليابان التي تملك الين، وبريطانيا التي تملك الجنيه الإسترليني والصين التي تملك اليوان.
والثانية: هنالك دول غنية أصغر تدور في فلك هذه الاقتصادات مثل كندا وأستراليا والنرويج وسويسرا وكوريا الجنوبية وتايوان. والمجموعة الثانية تشكلها الدول الناشئة.
بالنسبة إلى الدول الغنية، يتوقع خبراء أن تواصل هذه الدول ضخ الترليونات في اقتصاداتها عبر التوسع النقدي أو طباعة النقود لتمويل الإنفاق على الاقتصاد ودعم النشاط الاقتصادي، دون أن تأبه في هذا المنعرج الخطر للتداعيات السالبة لـ”طباعة الأوراق النقدية” على مستقبل التضخم والقيمة الحقيقية للأصول وفقاعة الأسواق المالية.
أما على صعيد الاقتصادات الناشئة في مجموعة العشرين التي تتشكل من روسيا وتركيا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وجنوب أفريقيا والسعودية، فتشير التوقعات إلى أن هذه الدول ستواصل المعاناة الاقتصادية خلال العام الجاري، وربما حتى منتصف العام المقبل.
ولاحظت دراسة أن عملات هذه الدول تراجعت بين 15 إلى 20% خلال الأشهر السبعة التي انقضت من العام الجاري، إذ خسرت كل من الليرة التركية والريال البرازيلي والراند الجنوب أفريقي في المتوسط نسبة 20% من قيمتها مقابل الدولار في الشهور التي مضت من العام، بينما خسر كل من الروبل الروسي والبيسو المكسيكي نحو 15% في المتوسط مقابل الدولار. وتراجعت كذلك الروبية الهندية، وانهار البيسو الأرجنتيني، بعدما عجزت حكومة بيونس آيرس عن خدمة ديونها، واضطرت إلى إعادة جدولة جزء من ديونها في الخامس من أغسطس/ آب الجاري.
ولاحظ اقتصاديون أن جائحة كورونا ضاعفت من أزمات هذه الاقتصادات الناشئة التي دخلت عام 2020، وهي تعاني أصلاً من اختلالات كبيرة في العجز الإنفاقي وعجز ميزان المدفوعات وعجز الحساب الجاري. واضطر بعضها، مثل السعودية، إلى الاستدانة بكثافة من أسواق المال الدولية عبر إصدار سندات دولارية.
ويرى تحليل مشترك لثلاثة خبراء من صندوق النقد الدولي، نُشر في نشرة “vox”، أمس الخميس، أن الدول الناشئة معرضة لصدمة اقتصادية بسبب ضعف عملاتها وتداعيات ذلك على النمو الاقتصادي وهروب رأس المال الأجنبي.
وينصح الخبراء الثلاثة، وهم: الخبير النقدي في صندوق النقد الدولي غاستون غيلوز، وزميله الاقتصادي أومانغ رومات وزميلتهم الباحثة هانكنغ، في التحليل، المصارف المركزية في الدول الناشئة إلى زيادة الفائدة المصرفية حتى تتمكن من الدفاع عن العملات المحلية التي يهدد تدهورها مقابل الدولار مستقبل الاقتصاد.
ولاحظ خبراء في ذات الشأن، أن جائحة كورونا ضربت الاقتصادات الناشئة على عدة جبهات، أولى هذه الجبهات تقلص حجم صادراتها من السلع الأولية والمعادن والنفط إلى الأسواق العالمية بسبب ركود الطلب العالمي، وهو ما أدى إلى تضاؤل دخلها من العملات الصعبة التي تحتاجها بقوة لتلبية خدمة الديون الخارجية المقومة بالدولار والعملات الصعبة الأخرى.
أما العامل الثاني، فهو هروب المستثمرين من أسواقها خوفاً من المخاطر المترتبة عن الاستثمار فيها. وقد سحبت صناديق الاستثمار العالمية نحو 77 مليار دولار من هذه الأسواق حتى نهاية مايو/ آيار، حسب تقديرات معد التمويل الدولي في واشنطن.
أما العامل الثالث الذي يهدد بحدوث صدمات اقتصادية في الدول الناشئة، فهو انعكاس تدهور العملات المحلية على هذه الاقتصادات، إذ إن تدهور العملة يقود إلى ارتفاع معدل التضخم، ويرفع من فاتورة الواردات ويفاقم من فاتورة خدمة الديون الخارجية، ويؤثر مباشرةً بتراجع القوة الشرائية التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي. وهذه العوامل عادة ما تقود إلى اكتمال دورة الكساد الاقتصادي. وعادة ما تعاني الدول التي تتعرض لأزمات سعر الصرف ومن تدهور القوة الشرائية.
ولاحظت دراسة بهذا الصدد، أن المصارف المركزية في الدول الناشئة ليست لديها الأرصدة الكافية بالعملات الأجنبية للدفاع عن العملة المحلية، كما هو الحال بالنسبة إلى الاقتصادات الناضجة التي تصنف عملات بين “عملات الاحتياطات العالمية” مثل بريطانيا ومنطقة اليورو واليابان.
وتُعَدّ البرازيل من بين الدول المرشحة لأزمة مالية، إذ إن الجائحة تواصل ضرب البلاد بعنف، إذ تجاوزت الوفيات من الجائحة حتى يوم الثلاثاء، مائة الف. وحتى الآن تراجع الريال البرازيلي بنسبة 27% مقابل الدولار.
ويرى خبير أسواق الصرف العالمي في شركة “براون برازرس هاريمان”، الأميركية، إيلان سولوت، إنّ “هنالك قلقاً وسط المستثمرين من ارتفاع حجم الإنفاق البرازيلي وصعوبة السيطرة عليه، ما سيرفع من الدين الخارجي للبلاد فوق قدرتها على تسديد الديون”.
ورغم أن روسيا تسعى إلى دعم الروبل عبر تقليل الاعتماد على الدولار في التجارة مع الصين، تشير توقعات الخبراء إلى أنّ الروبل سيواصل التدهور بسبب تراجع مداخيل النفط والغاز في البلاد. وهبط الروبل الروسي إلى أدنى مستوياته في نهاية يونيو/ حزيران الماضي مقابل كل من اليورو والدولار.
من جانبها، تسعى تركيا إلى دعم عملتها عبر رفع سعر الفائدة المصرفية بعد أن أرهق الدفاع عن الليرة خلال العام الجاري احتياطات المصرف المركزي. وتسعى تركيا كذلك إلى زيادة الصادرات الصناعية وجذب سياح خلال العام الجاري للحصول على العملات الصعبة. وما يساعد اقتصاد تركيا على تخطي جائحة كورونا، أنه متنوع وله قدرة على التأقلم مقارنة باقتصادات أميركا الجنوبية والمنطقة العربية.
أما على صعيد الاقتصاد الهندي، فتبدو الروبية الهندية أحسن حالاً مقارنة بعملات الاقتصادات الناشئة الأخرى. إذ تراجعت الروبية بنسبة 5٪ تقريباً منذ بداية العام، متجاوزة مستوى 77 روبية مقابل الدولار للمرة الأولى في منتصف إبريل/ نيسان.
وتستفيد الروبية من احتمال التدفقات الدولارية المحتملة من الشركات الأميركية على الهند خلال العام الجاري والمقبل بسبب خطوات الولايات المتحدة لاستبدال السوق الصيني في السوق الهندي ضمن خطوات محاصرة التمدد التجاري والتقني الصيني.